سواءً فهمنا تصريحات رئيس مجلس الأعيان ،فيصل الفايز ، في سياق وجهة النظر الشخصية التي تمثله ، وتعبّر عن رؤيته للأحداث والقضايا التي نواجهها ، أو في سياق حسابات الدولة ومجساتها ، باعتباره رئيسا لإحدى إداراتها المهمة ، وسواءً جاءت هذه التصريحات في جلسة مغلقة ، يفترض أن لا تخضع للنشر ، او أن رسائلها تسللت لوسائل الإعلام بشكل مقصود ، وفي هذا التوقيت بالذات ، فإن ما قاله مهم وخطير ، وأكاد أقول : انه وضع الأردنيين أمام المرآة ، ليروا صورتهم وأوضاعهم ومواقفهم كما هي ، وكما يجب أن تكون ، دون أي مجاملة او "مكياج".
قبل أن استطرد ،أرجو أن يسمح لي "أبو غيث " أن اضع توقيعي على ما قاله ، فأنا أعتقد - تماما -أن بلدنا يواجه موجة من "المزايدات "، وإننا الآن وحدنا ، ويجب أن نواجه مصيرنا ،ونحدد خياراتنا بما يتناسب مع قدراتنا ومصالحنا ، لا نملك قرار إعلان الحرب بمعزل عن عمقنا العربي ، ولا يجوز أن تأخذنا بعض الأصوات للمغامرة بفتح حدودنا ، او إعلان الجهاد .
فلسطين في ضمير الدولة الأردنية ، ولم يقدم احد لهذه القضية العادلة اكثر مما قدمه الأردنيون ، وما نملكه في هذه الظروف الصعبة هو أدواتنا السياسية والإعلامية و الدبلوماسية ، وهي تتحرك دائما باتجاه فلسطين ، لا القدس فقط، كقضية اردنية أولا ، ومن يقول غير ذلك ، فهو إما جاحد أو مزاود او منافق ، لا يعرف الأردن ، ولا يضمر له خيرا.
صحيح ، جبهتنا الداخلية اصبحت ضعيفة ، وحالة مجتمعنا ليست على ما يرام ، لقد تعرضنا ،خلال السنوات المنصرفة ، لمحاولات منظمة لزعزعة وحدتنا وتماسكنا ، وهز ثقتنا بأنفسنا وبلدنا ، والتشكيك بإنجازاتنا الوطنية ، شارك فيها فاعلون محليون معروفون ، وآخرون مجهولون .
صحيح ،أيضا ، لا يوجد لدينا إعلام دولة ، يعبر عن قيمها ومواقفها ، ولا يوجد سرديات للدولة في أزماتها ، ضيعنا فرصا كثيرة لبناء هذا الإعلام الوطني ، وساهمنا بإضعافه، مما ترك المجال أمام سطوة "وسائل التواصل " لتملأ هذا الفراغ بعيدا عن المهنية ،والضوابط الأخلاقية والمصالح الوطنية ، وبالتالي خسرنا على اكثر من جبهة ، ليس لأننا لا نملك القدرات والكفاءات الإعلامية ، وإنما لأننا تجاهلناها ، وتعاملنا معها بمنطق "المأكول المذموم".
تصريحات الفايز ومصارحاته صدمتنا، وربما أوجعتنا ، لكنها يجب أن تستفزنا لنستعيد توازننا وعناصر قوتنا ، ونصحو من غفلتنا ، ونغادر منصات اليأس والكراهية ، ونحتكم لضمائرنا ، ثم نصرخ بوجوه "المعطّلين " و"الفاسدين " بيننا : نحن الأردنيين نستحق أن نكون أفضل مما نحن عليه، وهذه الدولة التي بناها الآباء والأجداد ، وتعاضدت فيها ارادة القيادة مع ارادة الشعب ، على امتداد 100 عام ، تستحق أن تبقى قوية صامدة ، وأن نضحي من أجلها بما لدينا من امكانيات ، لا ان نترصد بها العاديات ، نحن -للأسف -نحصد اليوم ما زرعناه بأيدينا في الأمس ، لا أقول ذلك من أجل تقليب المواجع ، لكنني أعيد التذكير به ، لكي نفهم ما حدث لنا ، ونجتهد ونتوافق لتجاوزه.
لقد أخطأنا ،أقصد إدارات الدولة ونخب المجتمع معا ، أخطأنا بالتعامل مع وسائطها السياسية والاجتماعية ، أخطأنا بتقدير ذاتنا الوطنية و عنوانها "الكرامة "، أخطأنا حين فرضنا الوصيات على أحزابنا ومؤسساتنا المدنية ، أخطأنا في الاقتصاد والسياسة ، أخطأنا حين تركنا شبابنا بمرمى نيران البطالة والتهميش والمخدرات ، ولم نقدم لهم مشروعا وطنيا يستوعب طاقاتهم ، ويستثمر إبداعاتهم .
أخطأنا حين استغل البعض أزماتنا فنفخ فيها ، بدل أن نتوافق على "صفر أزمات "، والآن نخطىء اذا تصورنا ان" التحديث" بمساراته الثلاثة سيتم ب"كبسة زر"، أو أن الأحزاب "المعلبه " الجاهزة قادرة على حمل المرحلة القادمة ، أو أن " ماراثون "استعادة ثقة الأردنيين يبدأ من التصريحات "المعسولة "، وينتهي بها أيضا.
أعرف ، كما قال الفايز ، انه لا وقت الآن للتلاوم والشكوى ، ولا لانتظار المنقذ والمخلّص الغائب ، ولا أريد أن أسأل : كيف حدث ذلك، ولماذا ؟ ومن هو المسؤول عنه ؟ المهم أن نبدأ مرحلة جديدة نستعيد من خلالها عافيتنا الوطنية ، بجبهة اردنية موحدة ، وإعلام قوي ، واقتصاد متعاف ومحصن من الفساد ، وأن نتعلم من اخطائنا ، أما كيف ؟ فلدي ثلاثة عناوين .
الأول : تصحيح العلاقة بين إدارات الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة والانتماء واحترام الكفاءة، الثاني تصحيح مسارات السياسة والاقتصاد على اساس الاعتماد على الذات والعدالة واطلاق الحريات العامة ، الثالث ترتيب علاقاتنا مع محيطنا الإقليمي والخارجي بناءا على مصالحنا ، ووفق إمكانياتنا .
مهمة رجالات الدولة تقديم ما يلزم من اقتراحات ، استنادا لمطالب الناس وحاجاتهم وتطلعاتهم، ثم وضعها أمام صانع القرار ، اما إدارات الدولة فواجبها ان تطمئننا على أنها تعمل بكل طاقاتها ، بانسجام وتكامل ، لخدمة الأردنيين ، وإعادة بلدنا إلى سكة السلامة.