في شهر رمضان المبارك تتجدد الهمم، وتستعد النفوس المؤمنة للمسابقة بالخيرات وللمسارعة بالصالحات في ميادين الطاعات المتنوعة، من صيام وقيام وصدقة وتلاوة القرآن وتفقد لاحتياجات الفقراء والمساكين وتحسس حاجتهم وكذلك الاجتهاد في الدعاء لعامة المسلمين في كافة أرجاء المعمورة وفي كل مكان يذكر فيه اسم الله عز وجل.
وحيثما ذكر اسم الله في بلد
عددت ذاك الحمى من صلب أوطان
وفي كل يوم من أيام الشهر الفضيل يفتح المولى تبارك وتعالى لنا ميداناً للتنافس والسباق بالخيرات قال تعالى: (فاستبقوا الخيرات) سورة البقرة آية ١٤٨؛ وكما تتنوع الأعمال الصالحة في هذه الأيام الفاضلة فكذلك تتضاعف الحسنات وتكثر الفرص لغفران الذنوب وتكفير السيئات.
وهذا الشهر العظيم، موسم كريم تتولد فيه الأفكار النيرات لتشتعل في النفوس الهمة وتبعث في الروح الامل، وحتى لا نضيع هذه الفرصة العظيمة من ميلاد الأفكار المباركة فالواجب أن نهيئ لها ما يكون به دوامها ولا يكون عائقا في اتصالها.
وشهر رمضان هو حاضنة الأفكار النيرة التي تولد الجدة لأنها مهددة بالقتل في مهدها فلا بد أن نعرف عدوها حق المعرفة لنتعامل معه بثاقب بصيرة، وعدوها الذي يتصيدها هو الوهن والوهم الذي أصاب المسلمين اليوم بالكسل والاتكال فظنوه شهر طعام وشراب لا شهر عمل وتغيير وإتقان وترق في مدارج التقوى لبلوغ غاية الإحسان.
وبما أن الوهم مرض وداء عضال فهو يتولد منه الوهن ولو لم يجد الشيطان في الوهم أداة حادة تقتل النفس لما استخدمها ولما كانت من الأهمية بمكان وجدنا كتاب الله ينص عليها وينبه إليها قال تعالى: (الشيطان سول لهم وأملى لهم) سورة محمد (٤).
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت للعبادة الاعضاء
وتنشط النفوس إلى العبادة من خلال الصيام الذي يحيل ثقلة الجسد إلى خفة الطين التي تثقله عن العبادة وتصده عن الانابة فإنه في الصيام بقلة طعامه وشرابه يرتقي فكيف إذا خلا قلبه من الشهوات وعقله من الشبهات وفي الحديث ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وكمال صفاء الذهن يكون بخلوه من الشبهات وهو الصيام الحقيقي وقد قيل: (لو فكرت في نهاري ما أعددت لإفطاري ما حسبت نفسي صائما )، ولا يتم ذلك إلا بقتل الوهم والوهن المتمثل في عجزك وصدك عن الخير وتخاذلك عن التفاعل مع توجيهات الله لك لتكون كيفما أراد الله لا على ما يريد الشيطان وأعوانه يقول تبارك وتعالى ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ) النساء آية ٢٧.
وهذا الشهر العظيم فرصة سانحة لاستدعاء الأفكار التي تبعث على التفاؤل والأمل في حياة الأمة أفراداً ومجتمعات، وتجدد لها همتها، ومن تلك الأفكار التحدي والقدرة فإننا بحاجة دائمة إلى ما يؤكد لنا في نفوسنا ويعزز فيها القدرة والاستطاعة على العمل - أي - أننا نقدر ونستطيع أن نفعل ونغلب أنفسنا وشهواتنا والشيطان، بل نتحدى للثبات والديمومة.
ومن الشهوات والشبهات التي تواجه المسلم قول الشيطان: نم. عليك ليل طويل»، فإذا ما استجاب المسلم له غلبه وكان حظه كمن قال فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم، (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). وإذا استجاب للعبادة انحلت عقد الشيطان، ومع كل عبادة تنحل عقدة وتزول، وفي الحديث فإذا صلى انحلت عقده الثلاث). وأجلى ما تتضح الفكرة في شهر رمضان وبمقارنة بسيطة نجد المسلم قبل رمضان يعجز ويضعف عن القيام بواجبه المحتم عليه من الطاعات المفروضة، إلا أن هذا الوهم سرعان ما يتبدد في شهر رمضان المبارك فتجده يصوم النهار ويصلي التراويح ويقوم من الليل ويأخذ حظاً من الأذكار ونصيبا من الورد القرآني اليومي ويصل أرحامه ويتفقد جيرانه، ثم هو بعد ذلك مستعد للإنفاق في سبيل الله وللمسارعة بالخيرات، وما ذلك إلا ثمرة قتل الوهم والوهن والخمول والكسل، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من أمراض الروح والنفس والقلب والجسد في دعاء بليغ يكرره كل صباح ومساء (اللهم إني أعوذ بك من العجر و الكسل ومن البخل والهرم) ، بل وتزداد المسابقة وتعلو الهمة في اغتنام الموسم كالحرص على تحري ليلة القدر وتحصيل الأجر.
كما أننا في شهر رمضان مدعوون لاستيلاد الأفكار والبحث فيها واستمطارها والافادة منها والدعوة اليها، وكذلك ينبغي تنشيط الذهن بقتل الوهن واستدراج الفكرة الصالحة وتنميتها واستثمارها وتنقيتها ثم بثها والتفاعل معها وهو ما دعا اليه القرآن الكريم في كل آياته (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، سورة محمد آية (٢٤).
أرأيتم كيف يقتلنا الوهم في غير رمضان، بل إن الأمة بأسرها لن تجد علاجها إلا بالمبادرة والمثابرة في الفكر والعمل فإن شهر رمضان شهر للعمل وميلاد الأفكار وقتل الاوهام.
وللحديث بقية...