وصل التوتّر ذروته بين جنرالَيّ الإنقلاب العسكري الذي أطاح عمر البشير, ديكتاتور السودان الأطول حُكماً في تاريخ هذاٍ البلد العربي, المنكوب بانقلابات الجنرالات منذ استقلاله عام 1956, وقيام الفريق إبراهيم عبود بـ«أول» انقلاب عسكري بعد عامين من الاستقلال 17/ 11/ 1958, إلى أن أطاح الجنرالات مُؤخراً عمر البشير في10/ 4/ 2019، ثم بدأت عملية تصفيات بينهم لتنتهي لصالح الثنائي عبدالفتاح البرهان وتاجر الماشية والتنقيب عن الذهب محمد حمدان دقلو/المُلقب حميدتي، الذي برز في «حرب» إقليم دارفور حامِلاً رتبة الجنرال من خلال م?ليشياته التي أُطلِق عليها اسم «الجنجويد» ولاحقاً تمّ شرعنتها من قبل نظام البشير لتُسمَّى «قوات الدعم السريع»، كجيش «رديف» ومُستقل «لا» سلطة للمؤسسة العسكرية السودانية عليها. الأمر الذي أجبر جنرالات الجيش وخاصة بعدما آلت الأمور إلى الفريق/البرهان إلى تسمية حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي.
حميدتي والبرهان على حد سواء نَسَجا سِراً وعلانية علاقة «طيبة ومُثمرة شخصياً» مع دولة العدو الصهيوني, وكانا الأكثر حماسة في صفوف النظام الجديد اللذيْن برّرا التطبيع (الذي لم يأت بأي فائدة على السودان, حتى بعد رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب «الأميركية») بأنه/التطبيع خطوة ضرورية للعودة إلى صفوف المجتمع الدولي(كذا), وهما الآن يتطلعان كل حِدة, لأن تتوسّط تل أبيب لأحدهما في واشنطن, علّ الأخيرة تسعف أحداً منهما ليحسم الصراع ويقود ما يُوصف العملية السياسية, التي أساسها الاتفاق الإطاري (المرحلي) الذي سيفضي?في النهاية إلى تسلم المدنيين المنُتخَبين الحكم وعودة العسكر إلى ثكناتهم. لم يتردًّد الجنرال البرهان في الزعم بأنه «يعمل على أن تكون المؤسسة العسكرية خاضعة لقرار المستوى السياسي الُمنتخَب», وهو أمر مشكوك فيه على ضوء العقود «الستة» التي انقضت على أول انقلاب عسكري قام به الفريق عبود عام/1958.
هل قلنا الاتفاق الاطاري؟.
نعم، وهو الآن موضع الخلاف الأول وليس الأخير بالطبع بين الجنرالين البرهان وحميدتي, إذ يرفض الأخير دمج ميليشياته (الدعم السريع) في قوام الجيش السوداني خلال السنتين المقبلتين, بل يطالب بان تمتد عملية الدمج إلى عشر سنوات. الأمر الذي رفضه البرهان ويبدو أن جنرالات في الجيش يدعمونه في هذا التوجّه. بل ثمَّة تصريحات صدرت عن بعض أعضاء مجلس السيادة الانتقالي, تتوعّد بأنها لن تتردّد في تنفيذ «أي قرار» يتخذه البرهان. لهذا تم تأجيل التوقيع على «الاتفاق النهائي» لنقل السلطة إلى المدنيين والذي كان مُقرَّراً السبت الماضي, ?سبب عدم حسم الخلافات بين «الأطراف العسكرية» (إقرأ بين البرهان وحميدتي), ما أدى إلى تصاعد التوتّر بين «الجنرالين» على نحو وضع «الاتفاق النهائي» في مهب الريح, إلى أن أُعلن لاحقاً التوصّل إلى «صيغة», يتم بموجبها التوقيع على الاتفاق النهائي يوم بعد غد الخميس(6نيسان).
في انتظار ما يمكن أن يكون عليه المشهد السوداني، يمكن التوقّف عند جملة من الملاحظات والمواقف والتصريحات والتسريبات, التي بدأ طرفا الأزمة - البرهان وحميدتي - وأنصارهما بثّها منذ السبت الماضي, وبخاصة من قبل «جماعة» حميدتي الذي اعتبر مشاركته في الانقلاب العسكري الذي تم على رئيس الحكومة السابق/عبدالله حمدوك في 25/ 10/ 2019 بأنه «خطأ», واصفاً نفسه بأنه «ابن بادية بسيط وسئِم من الحروب التي خاضها ويرغب بالسلام، مُضيفاً في «دور الحَمَلْ": أن مسيرته تخلّلتها أخطاء عديدة من قِبله, آخرها كان المشاركة في الانقلاب على ح?دوك، مُستطرِداً: إن الوقت حان لـ«توحيد» الجيش ودفعه بعيداً عن السياسة والاقتصاد», واصفاً اعتقال قادة القوى السياسية/المَدنية بأنه تسبّب في عودة نظام عمر البشير ومُحمِّلاً نفسه المسؤولية».
كلام كهذا يبدو مُستغرباً عن جنرال يصفه خصومه علناً وأنصاره سراً, بأنه ولغ في دماء كثير من الأبرياء في دارفور وغير دارفور، فضلاً عن محاولته تسويق نفسه كداعية سلام وزاهد في السلطة، فيما لم يتردّد الآن في إعاقة وربما اطاحة وثيقة الاتفاق النهائي لنقل السلطة إلى المدنيين, بإصره اطالة عملية دمج قواته/الدعم السريع في الجيش, الأمر الذي انعكس في «اقتراح» قدّمته قوى سياسية سودانية, بأن يتم «تضمين"الاتفاق النهائي بنداً آخر يتحدّث عن «خلاف» في دمج قوات الدعم السريع بالجيش. ما يعني من بين أمور أخرى إبقاء «قنبلة» موقوتة?في الاتفاق كثغرة, يمكن أن يستغّلها أحد الطرفين الجيش/البرهان أو حميدتي/الدعم السريع, لاطاحة الاتفاق وتعطيل الولوج إلى مرحلة جديدة يعود فيها الجيش إلى ثكناته, وابقاء السودان مرة أخرى - وربما ليست أخيرة - تحت حُكم الجنرالات. خاصة أن حميدتي وضع في اللحظات الأخيرة شرطاً جديداً, يتمثّل في «تطهير الجيش من الضباط الإسلاميين, الذي كَدّسهم الديكتاتورالمعزول/البشير طوال فترة حكمه». ما يعني أن احتمالات نجاح أو فشل التوقيع على الاتفاق النهائي الخميس المقبل 6/4, تبدو متساوية وربما تنحو نحو التأجيل مرة أخرى.