تُعتبر الموسيقى والغناء من الفنون الأكثر انتشاراً وتأثيراً في حياة الإنسان، فهي تعكِس التنوُع الثقافي والتاريخي للمجتمعات وتَجمع الأفراد على وتيرة واحدة وتربطهم بالترابط الاجتماعي، ومن ضمن أنواع الموسيقى والغناء المتميزة في الأردن هو الغناء الجماعي المتعدد الأصوات.
يتميّز هذا النوع من الفنون بالتناغم والتآزر بين أصوات المنشدين، ويمكن سماعه في العديد من المناسبات الاجتماعية والثقافية مثل الأعراس والمناسبات الدينية والوطنية، وهذا النوع من الغناء يؤثّر تأثيراً عميقاً في الحضور، كما يجعلهم يشعرون بالانتماء والتواصل مع بعضهم البعض مما يجعلهم يتركون الحفل أو الأمسية الغنائيّة بمشاعر إيجابية وذكريات لا تنسى.
وبشكل عام؛ يعرّف الغناء الجماعيّ المتعدّد الأصوات بأنّهُ مجموعة من المُنشدين الهواة أو المحترفين الذين ينضوون -عادة- تحت مؤسّسة، أو هيئة رسميّة أو كلّيّة أو جامعة أو رعيّة أو دير. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن نذكر "جوقة أطفال أوبرا باريس الوطنيّة" و"جوقة المسرح اليونانيّ"، و"جوقة كنيسة سيستين" و"جوقة أوركسترا ستراسبورغ الفيلهارمونيّة" .
في الأردن، يمكن تصنيف الغناء الجماعي المتعدد الأصوات إلى ثلاث مستويات مختلفة؛ المؤسسات التعليمية، المؤسسات الاجتماعية، والمؤسسات الدينية، فعلى مستوى المؤسسات التعليميّة يعتبر الغناء الجماعي المتعدد الأصوات واحداً من الأنشطة الرائجة بين الطلاب في المدارس والجامعات، فقد تمكنت العديد من المدارس والجامعات في الأردن من تشكيل فرق غنائية متميزة تعكس التنوع الثقافي للمجتمع الأردني كـ "جوقة مدرسة الأهليّة والمطران" التي أُسست عام 1958 على يد معلّمة البيانو نهاد كاتبة، وأعادت إحيائها معلّمة البيانو والغناء سامية غنّوم عام 1976 وقادتها مدّة أربعة وأربعين عاماً إضافةً إلى "جوقة المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة" في القسم الثّانويّ والتي تأسست على يد سامية غنّوم عام 1981 حتّى عام 1991 وأعادت معلّمة التّربية الدّينيّة سهى نصّار إحياء هذه الجوقة عام 1996م بمرافقة أستاذ الموسيقى علاء المصريّ، ونذكر أيضاً "جوقة مدرسة راهبات الورديّة" التي تأسست على يد معلّمة الموسيقى ديانا تلحمي عام 1992 حتى عام 1995 وأُعيد تأسيس هذه الجوقة بتوجيه من الأخت فرانشيسكا خميس عام 2007م، و"فرقة جامعة فيلادلفيا" التي تأسست على يد الدكتور نضال نصيرات عام 1996، و"فرقة الجامعة الأردنيّة" التي تأسست عام 2001 على يد الدكتور محمّد واصف وغيرها الكثير من الفرق والجوقات التي تنضوي تحت المؤسسات التعليميّة.
نعلم بأن هذا النوع من الغناء يساهم ضمن هذه المؤسسات في تعزيز الروح الجماعية بين الطلاب وتعزيز قيم التعاون والتفاعل الاجتماعي بينهم، كما أنه يُمثّل وسيلة فعّالة لتعزيز مهارات الاتصال والتواصل اللغوي بين الطلاب، ويساعد أيضاً في تنمية مهاراتهم الغنائيّة والتعبيريّة.
وعلى مستوى المؤسسات الاجتماعيّة، فيوجد العديد من المنظمات والجمعيّات الخيرية التي تُؤسس وترعى فرقاً غنائية متعددة الأصوات والتي تعمل على تعزيز الصداقات والعلاقات الاجتماعية بين المشاركين فيها، ويمكن أن يتم تنظيم هذه الفرق في المدن والمناطق المختلفة، وتكون مفتوحة للمشاركة للجميع، بغض النظر عن العمر أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو العقيدة الدينيّة، ومثال ذلك جوقة جمعيّة الشّابّات المسيحيّة، حيث كان لشخصيّات مميّزة في الموسيقى دور بارز في تأسيسها ومن أهمّهم: السيّدة سامية غنّوم، والسيّدة تانيا ناصر، والسيّد كريم بوّاب عام 1980 واستمرّت لمدة تقارب الثلاثين عاماً، وجوقة مؤسّسة دوزان وأوتار التي أسستها الدكتورة شيرين أبو خضر عام 2002 واستمرّت لمدّة تقارب السبعة عشر عاماً، وجوقة موزاييكا والتي تأسست على يد السيّد ندي المنى عام 2019 ومستمرّة حتّى يومنا هذا، وجوقة ناي للأطفال التي أسستها الموسيقيّة ديانا تلحمي عام 2009 ومستمرّة ليومنا هذا أيضاً.
إنه ومن خلال هذه الفرق الغنائية يتم تشجيع المشاركة المجتمعية والترابط الاجتماعي وتعزيز الروابط بين أفراد المجتمع المحلي، كما يعتبر هذا النوع من الغناء وسيلة فعّالة للتعبير عن الثقافة والهوية الوطنية وتعزيز الانتماء إلى الوطن.
أمّا على المستوى الديني، تلعب المؤسسات الدينية دوراً مهماً في تعزيز الغناء الجماعي المتعدد الأصوات في الأردن، حيث يتم استخدامه كوسيلة للتواصل الروحي وتعزيز العلاقة مع الله والتواصل مع المجتمع الديني، وفي هذا السياق؛ يتم إنشاء فرق غنائية داخل المؤسسات الدينية مثل المساجد والكنائس والأديرة، حيث يتم تدريب الأفراد على الغناء بمختلف الأصوات وإبراز الجماليات الصوتية المختلفة في الأناشيد الدينية والتراتيل.
وبالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام الغناء الجماعي المتعدد الأصوات في المناسبات الدينية المختلفة، حيث يكون للغناء دور فعّال في تعزيز الشعور بالانتماء والوحدة بين الأفراد، ويمكننا إعطاء بعض من الأمثلة على هذه الجوقات والفرق، كـ "فرقة اليرموك للإنشاد الإسلاميّ" التي تأسست عام 1984 بإشراف السيد محمد الغرابلة، و"جوقة كنيسة قلب يسوع الأقدس" التي تأسست على يد السيد أكرم نصّار عام 1993، وجوقة ينبوع المحبّة التي تأسست على يد السيّد طعمة جبارة عام 2002، وجوقة الأردنّ البيزنطيّة التي تأسست على يد الدكتور حسام حدّاد عام 2005 وجميعها مستمر حتى يومنا هذا، حيث يُساهم هذا الأسلوب الغنائي في خلق جو من الإيجابية والتآزر والترابط بين أفراد المجتمع الديني، ويساعد في تعزيز القيم الأخلاقية والروحانية والاجتماعية بين الناس.
وبالنظر إلى الجمال الذي يتمتع به هذا الفن، والروح الإيجابية التي ينشرها بين الناس، فلا شك أنّه لا يمثّل فقط إحدى أهمّ العناصر الثقافية التي يتميّز بها الأردن، بل يشكّل أيضاً نمطاً فنياً يجسّد التلاحم والتآخي بين الأفراد ويعزّز الإحساس بالانتماء والوحدة الوطنية، حيث يشهد الأردن اليوم نموّاً كبيراً في هذا الفن الرائع، فالأنشطة الموسيقية والمسابقات الغنائية تحظى بشعبية كبيرة في جميع أنحاء البلاد وتجذب الكثير من المواهب المحلية والدولية، وبهذا المعنى يجب أن نسعى لزيادة الوعي بأهميّة هذا النوع من الغناء وأن نحافظ عليه وندعمه بكلّ السبل الممكنة ليظلّ عنصراً حيوياً في حياة الشعب الأردني.