استطرادا لما ذكرته في مقالتي أمس الأول حول (القضية الأردنية) أقول بكل صراحة: لقد حان الوقت لكي يفكر الاردنيون جديا بالتوافق على مشروع وطني جامع يتوحدون حوله ويفرزون افضل ما لديهم لخدمة بلدهم، وهذه ليست مجرد امنية او رغبة، وانما حاجة وضرورة ملحة ايضا.
تحتاج هذه الدعوة الى توضيح، فالمشروع المطلوب لا بد ان يستند الى « قضية « تشكل نقطة التقاء يجتمع الاردنيون عليها، واعتقد ان عنوان هذه القضية هو ( الدولة ) بكل ما تمثله من جوامع ومشتركات، وقيم ومصالح. ثم انه يحتاج الى نخب وطنية، تحظى بحواضن شعبية معتبرة، تحمله وتتبناه، وهذه النخب يمكن ان تتشكل من «كتلة تاريخية « تضع لها هدفا واحدا هو بناء الدولة الاردنية على اساس مدني ديمقراطي، وفي اطار هوية واضحة، ترفض التقسيم على الجغرافيا او الدين او القبيلة، واذا كان المجتمع هو المسؤول عن انتاج هذا المشروع وتحديد مضامينه واهدافه، في اطار مسارات التحديث التي افتتحنا بها مئويتنا الثانية، فان على ادارات الدولة، ايضا، بأجهزتها المختلفة، ان تدعمه وترعاه، وتنسجم معه في قراراتها وتشريعاتها وتوجهاتها العامة.من المفارقات ان كل شعب له هوية يتوحد على اساسها، وقضية يدافع عنها، ودائرة وطنية كبرى يتميز بها عن غيره، لكن بعض الاردنيين ما زالوا للاسف بلا هوية واضحة ومحددة، وبلا قضية جامعة، وبلا دائرة وطنية يحتشدون فيها، وباستثناء ما يعبرون عنه من وحدة وجدانية في الازمات فان انتماءاتهم تتوزع على خرائط مختلفة واحيانا متناقضة، كما ان مزاجهم العام يخضع لاعتبارات تتجاوز في الغالب حدودهم، وتصب احيانا خارجها.السؤال الاهم : من يستطيع ان ينهض بهذا المشروع، وكيف يمكن ان نفرز «كتلة» تاريخية عابرة للأحزاب والديموغرافيا والولاءات الفرعية والمصالح الذاتية، وقادرة على طرح نفسها على «المجتمع» وانتزاع اعترافه وقبوله، وقادرة ايضاً على التماهي مع قيم الدولة ومصالحها؟ مع ان هذه المهمة تبدو صعبة، لكنها ليست مستحيلة، خاصة اذا ما ادركت الدولة اولاً والمجتمع ثانياً ان افراز مثل هذه «الكتلة التاريخية» مصلحة عليا، وضمانة لحماية البلد، وتحقيق ما يلزمه من تحول سياسي، وتنمية وأمن واستقرار.بقي لدي ثلاث ملاحظات على الهامش، الاولى اننا «تعبنا» على مدى السنوات الماضية من «التنظير» في قضايانا، وانشغلنا كثيرا بالحوارات والسجالات واعطاء الوصفات والاقتراحات التي لم يَرَ غالبها النور، وقد حان الوقت لكي نفكر - جديا - بانتاج مشروع وطني جامع، يتغذى من كل مقومات بلدنا وانجازاته، من الفن الذي أهملناه، والأغاني التي تحولت - للاسف - الى وجبة ثقيلة للشحن وادامة «التلبك» الوطني، والدين الذي أصبح خطابه مملا وغير مقنع كما يظهر في أنماط تديننا وخطب منابرنا وعظات بعض «الفاعلين» في مجال الدين، ثم من الثقافة هذه التي تعاني من «فقر» مدقع، ليس فيما يخصص لها من «اموال» وانما فيما تشهده من ضحالة افكار ومن تراجع في الابداع.الملاحظة الثانية هي اننا وان كنا قد حسمنا مسألة (الشرعية) بالنسبة للدولة والنظام السياسي الا أننا لم ننجح بعد (لا تسأل لماذا؟) في حسم كثير من القضايا التي ما تزال معلقة، ومن أبرزها قضيتا الهوية والانتماء: وهما اساسان لبناء الشخصية الوطنية - ان شئت (المواطنة) - وتمكين المجتمع والدولة من بناء مشروعنا الوطني، والسبب في ذلك قد يكون ذاتيا وقد يكون - أيضا - متعلقا بظروف خارجية ضاغطة لم تترك لبلدنا حرية الحسم والاختيار.اما الملاحظة الاخيرة فهي أن انتاج أي مشروع وطني قابل للحياة يحتاج الى تجاوز أو وضع المعالجات الحقيقية لأهم القضايا التي تشغل المواطن الاردني وهي، مشكلة الاقتصاد، الفقر والبطالة والتعليم والطبابة: والخدمات العامة، ذلك أنه لا يمكن أن ننتظر من الناس ان ينصهروا في أي مشروع وطني الا اذا انتهوا من تحصيل حقوقهم البسيطة واطمأنوا الى حاضرهم لكي يفكروا في مستقبلهم، واقتنعوا - ايضا - بأنهم شركاء حقيقيون ومواطنون لا مجرد سكان مهمشين او متفرجين
هذا مشروع الدولة الأردنية
مدار الساعة (الدستور) ـ