أثارت الجولة «الإفريقية» التي قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون إلى أربع دول افريقية (انتهت للتوّ)...سيلاً لم يتوقف من ردود الأفعال والتصريحات والإتهامات والإتهامات المضادة, على نحو أعادت السجالات حول الدور الذي انهضت به فرنسا في افريقيا منذ استعمارها لدول افريقية عديدة وفي مقدمتها الجزائر الشقيقة, التي استطال استعمارها «130» عاماً وكان اسمها في السجلات الرسمية والإعلام الفرنسي «الجزائر الفرنسية».
انسحب المصطلح ذاته على باقي المستعمرات الفرنسية/الإفريقية, وهو ما تجلّى في التسمِية التي استخدمها ماكرون قبل جولته وخلالها, في تمهيد لتبنّي سياسة جديدة في افريقيا (بما يشمل القواعد العسكرية الفرنسية في افريقيا) عندما قال: إن عصر فرنسا الإفريقية قد انتهى, وأن فرنسا صارت الآن «مُحاوراً مُحايداً في القارة». ما أثار الكثير من التساؤلات حول جديّة إعلان ودور كهذا, خاصّة انهما (الإعلان والدور) جاءا في ظل انحسارٍ وتراجعٍ ملحوظيْن للنفوذ الفرنسي في القارة, وبخاصة في مستعمراتها السابقة التي يبدو أنها تمرّدت رافضة ال?يمنة الفرنسية, والتي تمثّلت في استمرار تواجد العسكريين الفرنسيين في قواعد عديدة لدى بعض مستعمراتها. إذ شهِدنا في العقدين الأخيرين كيف تدخلت تلك القوات/الفرنسية لصالح أنظمة ورؤساء, تارة بالحؤول دون نجاح انقلاب ما, أو التخطيط لتدبير انقلاب يطيح بزعيم في هذه الدولة الإفريقية أو تلك, لا يتماشى والمصالح الفرنسية (تماماً كما هي حال الولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية بما هي حديقتها الخلفية, وعلى النحو ذاته تنظر فرنسا إلى افريقيا على أنها حديقتها الخلفية, وبخاصّة دول شمال افريقيا (العربية) ومنطقة الساحل وغرب?افريقيا في الآن ذاته.وإذا كانت المعارضة الغابونية (نسبة إلى جمهورية الغابون التي استهل بها ماكرون جولته الإفريقية) قد اتّهمت الرئيس الفرنسي بأنه من خلال زيارته للغابون إنما «يهدِف إلى إظهار التأييد للرئيس علي بونغو, فيما تستعد الغابون لتنظيم انتخابات رئاسية»، فإن محاولة ماكرون التنصّل من «هدف» كهذا, وتأكيده انه لم يأتِ لتنصيب أي شخص، بل جاء «فقط» لإظهار صداقته وإحترامه لبلد وشعب صديق», لم تُقنع المعارضة الغابونية فضلاً عن أنه كرّر أقوالاً كهذه في الدول الإفريقية الأربع التي زارها إذ قال في جمهورية الكونغو الديموقراطية: لا حروب?ولا نهب لِخيّرات إفريقيا». في الوقت ذاته الذي غمز فيه بل انتقدَ علناً «الذهنيات» التي «لا تتطوّر» بوتيرة «تطوّرِنا»، عندما أقرأ وأسمع وأرى - أضاف - أنه ما زال تُنسَب لفرنسا نوايا ليست لديها...لم تعد لديها». ختم ماكرون نفيه الإستعلائي هذا.حفيد المستعمِرين الفرنسيين كما كل أحفاد المستعمرين, أرادوا وما يزالوا يصرّون على تجميل استعمارهم ووصفه بأنه «استعمار تنويرِيّ»، رغم كل ارتكاباتهم واستعبادهم الشعوب ونهب ثرواتها واستباحة سيادتها، بل يحاولون - ما أمكنهم ذلك ــ إعادة تدوير استعمارهم وإلباسه مواصفات حداثية وحضارية ذات طابع إنساني, يتغنى بشعارات (الديمقراطية وحقوق الإنسان وحريّة المرأة والمِثليين ومنظمات المجتمع والإنتخابات البرلمانية, تحت طائلة العقوبات والنبذ والعزلة وعدم «تعاون» البنك والصندوق الدوليّين.إذ أعلن ماكرون امام الجالية الفرنسية في الغابون عن «رغبته» في بناء «شراكة متوازنة»، والعمل على القضايا المشتركة مع بلدان القارة السوداء, سواء تعلّق ذلك بالمناخ أو التنوّع البيولوجي, أو التحديات الاقتصادية والصناعية للقرن الحادي والعشرين. كما - وهنا إضاءة أخرى لافتة - أكدَ ان «إعادة» تموضع القوات الفرنسية في افريقيا الذي كان تحدث عنه سابقاً, «لا تعني انسحاباً وفك ارتباط».. مُطمئِناً رعاياه الفرنسيين أنها «ليست انسحاب أو فك ارتباط»، بل - أضاف - هي عملية «تكييف» عبر إعادة تحديد «احتياجات» الدول الشريكة وتقديم?مزيد من التعاون والتدريب.إعادة تدوير للخطاب الإستعماري القديم بلغة ومصطلحات جديدة, لا تلغي أو تطيح القواعد الإستعمارية التقليدية المعروفة. في ظل منافسة دولية مُحتدِمة على القارة السوداء, بل قل محاولات غربية محمومة لمحاربة النفوذ المتصاعد لكل من الصين وروسيا، بعد أن تقدّمت أجيال شابة إفريقية الصفوف, وراحت تبحث عن مصالحها رافضة الهيمنة الإستعمارية الغربية التي لا ترى في دول الجنوب وأولها افريقيا, سوى «خزّانات» للمواد الخام وأسواق لتصريف بضائعها, ودائماً في استضافة قواعدها وأحلافها العسكرية. ولا ضير لو عقدت قمة إفريقية أخرى في البيت ?لأبيض الأميركي أو التقى زعماء المنظم الفرانكفونية في باريس وواصلوا الرطانة باللغة الفرنسية. خاصة بعد أن «شاخت» هياكل الكومنولث البريطاني.كل ذلك يحدث في ظل تمّسك المُستعمِرين الغربيّين ورفضهم «الإعتذار» للشعوب المُستَعمَرة «السابقة», والتصالح مع «الذاكرة» للتكفير عن خطاياهم.