مدار الساعة -معن خليف الخوالدة - لاشك أن حق الملكية يخوّل صاحبه السلطات الثلاث الإستغلال والإستعمال والتصرف وعلى الرغم من تمتع المالك بهذه السلطات الثلاث إلّا أنّه لم يعد حق الملكية مُطلقًا بل ورد عليه قيود قانونيّة وقد ترد عليه أيضًا قيود اتفاقية.
سأقتصر الحديث هنا عن القيود القانونية التي وردت بنص القانون وتحديدًا "التزام المالك بالإمتناع عن مضار الجوار الفاحشة أو غير المألوفة". لاشك بأن القانون قد أورد هذا القيد على المالك لحماية مصلحة خاصة وليست عامة والظاهر أن هذه المصلحة هي مصلحة الشخص المتضرر أي المجاور للمالك. كما هو معروف أنّ المالك يستطيع التصرف بملكه كيف شاء لكن تحت شرط ألا يؤدي هذا التصرف أو العمل إلى مضار للجار لأنّ ذلك يعرّضه للمسؤولية المدنية إن كان هذا المضار فاحش أو ما يُسمى "غير مألوف". وقد أولت الشريعة الإسلامية اهمتمامًا كبيرًا بالجار في القرآن الكريم والأحدايث النبوية الشريفة، مثال على ذلك قوله تعالى:۞ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا۞ (سورة النساء آية 36) ومن الأحاديث النبويّة الشريفة حديث رسول الله عليه الصلاة و السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره".و تأسيسًا على ذلك، فقد رتّب المُشرّع الأردني مسؤولية على المالك في حال قام بعمل أو تصرُّف معيّن أدى إلى ضرر غير مألوف للجار، فقد أورد المشرع الأردني ذكر القيد الوارد على المالك في المادّة 1021 من القانون المدني الأردني التي استمدها المُشرّع من مجلة الأحكام العدلية حيث قضت المادّة بأنّه "للمالك أن يتصرّف في ملكه كيف شاء ما لم يكن تصرُّفه مُضرا بالغير ضررًا فاحشًا أو مخالفًا للقوانين المتعلقة بالمصلحة العامة أو المصلحة الخاصّة". وبإستعراض هذا النص القانوني نستنتج أنّ المُشرّع أعطى الحق للمالك في التصرّف في ملكه كيف شاء دون تدخّل من أي شخص آخر في مُلكه لكن اشترط ألا يكون هذا التصرّف الصادر من المالك يؤدي إلى ضررا وليس أي ضرر إذ بيّن المشرع وحدد جسامة الضرر بأنّ يكون فاحشًا.أيضًا بالرجوع إلى المادة 1027 من القانون المدني الأردني حيث قضت بأنّه "1- على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار. 2- و ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها و إنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف ، على أن يراعى في ذلك العرف و طبيعة العقارات و موقع كل منها بالنسبة إلى الآخر و الغرض الذي خصص له ، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق."نستنتج من هذا النص شروط ترتب المسؤولية على المالك عن مضار الجوار الذي تسبب بها وهي غلو المالك في استعمال حقه ويتحقق الغلو هنا إذا تسبب تصرّف المالك ضررًا غير مألوف بالجار وعليه يمكن الإستنتاج أن معيار الغلو هنا هو الضرر الفاحش أو غير المألوف ، أي يقوم المالك بإستعمال حقه طبيعيًا لكن يؤدي هذا الإستعمال أحيانًا لحدوث ضررًا فاحشًا أو غير مألوف يصيب به جاره بشكل غير متعمّد ولا يعد هذا تعسفًا في استخدام المالك لحقه و أستند على أن المشرع وصفه بأنّه تصرفًا مشروعًا لكن تسبب بضرر أي تصرّف المالك بمُلكه هو ما يقرره له حق الملكية فهو مشروعًا وتصرّف طبيعيًا لكن أدّى إلى اضرار بالجار. الشرط الآخر لترتب المسؤولية على المالك هو إصابة الجار بضرر فاحش أو غير مألوف و المقصود هنا بالضرر الفاحش أو غير المألوف هو ما كان سببًا لوهن البناء الخاص بالجار أو تسبب بهدمه أو منع المنافع المقصودة من هذا البناء أو مُلك الجار أيًا كان شكله أيضًا من حق الجار أن تصل لملكه أشعة الشمس فإذا قام المالك ببناء سور مما أدى إلى حجب الضوء عن مُلك جاره هذا يعد من قبيل الضرر الفاحش و أيضًا إذا كان مُلك المالك يكشف مقر النساء الخاص بمُلك جاره هذا يعد أيضًا ضررًا فاحشًا على الجار. ولم يحدد المشرع الأردني الأضرار الفاحشة و إنما جعلها سلطة لمحكمة الموضوع لتكييف كل حالة على حدة مع الأخذ بعين الإعتبار كل حالة على حدة والظروف المحيطة بالحالة أي ليس هناك أي معيار بنص قانوني لتحديد الضرر أو جسامته لقيام المسؤوليّة إن كان فاحشًا أم لا إنما يترك تحديده لسلطة محكمة الموضوع وفق اعتبارات كما جاء في النص تتعلّق بالعرف وطبيعة العقارات و موقع كل منهما بالنسبة للآخر و الغرض الذي خصصت له، فمثلًا بالنسبة للعرف المتعارف عليه أن المالك يمكن أن تحدث عنده مناسبة معيّنة يقوم بتشغيل أغاني أو ما شابه فتؤدي إلى حدوث ضوضاء فهذا من قبيل العرف و يستطيع الجار تحمُّل مثل هذه الضوضاء لأن العرف يقرر ذلك و ليس شيئًا غريبًا، أما فيما يتعلق بطبيعة العقارات فقد يكون ضررًا مألوفًا لمكان عام مثل حديقة أو منتزه عام لا يُعد نفس هذا الضرر في المستشفى مألوفًا إنما يُعد غير مألوف على الرغم من أنّه نفس الضرر لكن طبيعة العقارات تختلف أيضًا مثلًا منطقة صناعية تكثر فيها المصانع مما يسبب كل مصنع تخرج منه ضوضاء فهذا الضرر يعتبر مألوفًا بين المصانع. ولكن لو كان المصنع مجاور لمستشفى أو منطقة سكنية هنا نفس هذا الضرر يُعد ضررًا غير مألوف. أمّا فيما يتعلق موقع كل عقار بالنسبة إلى الآخر نجد التطبيق هنا في أن صاحب السُفل بحكم موقعه عليه أن يتحمّل من العلو ما لا يتحمله هذا الأخير من السُفل. أيضًا يجب التنويه أنّ لا مجال للأخذ بالظروف الشخصية للجار وإنما السلطة لمحكمة الموضوع تقوم بتكييف كل حالة على أساس موضوعي وليس شخصي أي لو كان الجار طبيعة عمله تتطلب الهدوء التام و أصدر المالك ضوضاء لا تصل إلى أن تكون فاحشة لكن جاره لا يستطيع العمل بوجود أي صوت على الإطلاق فهنا لا يُعتد بهذا الشيء من قبل قاضي الموضوع ، أو مثلًا في حالة كان الجار مريضًا ففي هذه الحالة أيضًا لا يُعتدّ بهذا الظرف الشخصي أو ما يُسمى بالإعتبار الذاتيّ عن قيام المسؤولية.
لم يبين المشرع فيما إذا كان الضرر مؤقتا أم مستمرا، لكنني أرى أن الضرر يجب أن يكون مستمرًا و ليس مؤقتًا أو حدث فجائيًا مستندًا على أنّ لو كان الضرر المقصود يشمل المؤقت لما احتاج المشرع إيراد مثل هذا النص الخاص واكتفى بالقواعد العامة و تحديدًا ما ورد في المادة 256 من قانون المدني الأردني التي قضت بأنّه ( كل اضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر). فيشمل هذا النص حالة إن كان الضررا مؤقتًا أو فجائيًا لكن المقصود بالإضرار بوجهة نظري الخاصة في موضوع مضار الجوار هو الإضرار المستمر و ليس المؤقت أي يمضي يوم تلو الأخر و الإضرار يبقى موجودًا على الجار.تجدر الإشارة أيضًا أنّ يجب أن يتحقق الضرر الفاحش فعلًا مُستنِدًا على ما جاء في قرار لمحكمة التمييز ( .. إن الفتحات و الشبابيك الموجودة في الطابق الثالث للمدعي عليه التي تكشف سطح بناء المدعيين قد تلحق ضررًا بهما في حالة قيامهم بالبناء على السطح أو على جزء منه لا تثبت الضرر لأنه مبني على الإحتمال ) (تمييز حقوق 672/91 صفحة 1250 سنة 1993 ) فيتبين أن الضرر يجب أن يقع فعلًا و ليس احتماليًا. أيضًا يجب الحديث عن نص المادّة 1026 من القانون المدني الأردني التي قضت أنّه " إذا كان لأحد ملك يتصرف فيه تصرفًا مشروعًا فأحدث غيره بجواره بناء تضرر من الوضع القديم فليس للمحدث أن يدعي التضرر من ذلك وعليه أن يدفع الضرر عن نفسه ". المقصود بهذا النص بإعطاء مثالًا على هذا الشيء لو بنى شخص منزلًا للسكنى بجوار مصنع قائم فلا يحق له الرجوع على صاحب المصنع بما أصابه من أضرار كالدخان مثلًا أو أي شكل من أشكال الضرر الأخرى وعليه أن يدفع هذا الضرر بنفسه. أما عند الحديث عن الفقرة الثانية من المادّة 1027 من القانون المدني الأردني فيتبين من نص المادّة أن الترخيص الإداري الذي يحصل عليه مالك مصنع معيّن مثلًا لا يعفيه هذا الترخيص من المسؤولية المترتبة في حال قام بالإضرار بالجار فمثل هذا الترخيص هو تدبير وقائي للمصلحة العامّة دون الخاصة فهذا يعصمه من المسؤولية الجزائية لا المدنية إنّما الأخيرة تبقى قائمة ويجب على المالك من تلقاء نفسه أخذها بعين الإعتبار و يبقى مسؤولًا حتى بوجود مثل هذا الترخيص الصادر من الجهات المختصة إن قام بتصرّف تسبب بضررًا فاحشًا للجار.
و أخيرًا عند الحديث عن جزاء مضار الجوار الفاحشة أو غير المألوفة بالرجوع لنص نفس المادة 1027 بفقرتها الثانية تنص على أن للجار " أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف" يتضح من هذا النص أن بدايةً يمكن للجار طلب التنفيذ العيني عن طريق إزالة الضرر وتجدر الإشارة أنّه ليس بالضرورة إزالة الضرر بإزالة الشي نفسه مثلًا لو كان الضرر مدخنة من البيت يخرج منها دخان كثيف بإتجاه مُلك الجار ويمكن التخلص من مثل هذا الضرر عن طريق تغيير اتجاه هذه المدخنة بحيث لا يصل الدخان إلى مُلك الجار ويؤثر عليه أو مثلًا عن طريق تعلية هذه المدخنة بدلًا من إزالتها كليًا فهنا ليس بالضرورة إزالة الشيء نفسه الذي أدى إلى الضرر و إنما هدف المشرّع إزالة الضرر أي التخلص من الضرر بأي وسيلة ممكنة فالنتيجة التي يريدها المشرع هي إزالة الضرر الذي يؤثر على الجار. لكن في حالة استحالة التخلص من الضرر إلّا بإزالة الشي نفسه ففي هذه الحالة يُحكم بإزالة المدخنة مثلًا في المثال السابق. أيضًا أحيانًا قد ترى المحكمة أن الضرر لا يمكن إزالته لأن لابد من وجود مدخنة مثلًا في كل مصنع وهذا أمر ضروري في كل مصنع فلا يمكن تغيير اتجاه المدخنة لأنها لن تؤدي إلى التخلص من الأضرار وأيضًا لا يمكن إزالة المدخنة لضرورة وجود في كل مصنع مدخنة هنا في هذه الحالة للمحكمة أن تحكم بإغلاق المصنع للتخلص من الضرر وهذا يعد من أشكال الجزاء عن مضار الجوار غير المألوفة. و بالرجوع إلى القواعد العامة إذا وجدت المحكمة أن التنفيذ العيني فيه إرهاق للمالك لها أن تحكم بالتعويض . على أيّة حال تستطيع بالإضافة إلى حكمها بالتنفيذ العيني كما أسلفت الذكر أن تحكُم أيضًا بالتعويض عن الضرر الذي حدث في الماضي ، وقد يكون التعويض عن ما حدث في الحاضر أي وقت المطالبة من أضرار لحقت بهذا الجار ، و أيضًا قد يكون التعويض عن المستقبل. اقتصرت المطالعة القانونية أعلاه على القيد القانوني المقرر لمصلحة خاصة بالنسبة لسلطات المالك "مضار الجوار غير المألوفة أو الفاحشة " بشكل مُبسّط و مُلِم لجميع الأحكام المتعلقة بهذا الشأن.
*كليّة الحقوق الجامعة الأردنية