أمضيتُ، وكوكبة من أعضاء جماعة عمان لحوارات المستقبل، سحابة يوم السبت الماضي، بضيافة كريمة من المنطقة العسكرية الشرقية، والكرم الذي أتحدث عنه هنا، لا يقتصر على ما اعتاد عليه الأردنيون من إكرام ضيفهم بحسن اللقاء، وكريم « القِرى»، لكنه كرم يتجاوز ذلك كله، إلى ما يعجز عنه إلا الصفوة من البشر، الذين يبذلون أرواحهم فداء لمبادئهم وأوطانهم، كما يفعل أبناء قواتنا المسلحة الذي يضعون أرواحهم على أكفهم، ويواصلون كلالة الليل بكلالة النهار، سهارى يحرسون حدود الوطن، تلفح وجوههم شمس الصحراء في نهارها شديد القيظ، ويلسعهم قارس بردها في لياليها المظلمة، لا يضيئها إلا وميض اليقظة في عيونهم، ونور الإيمان الذي استقر في قلوبهم فزادهم إصراراً على السهر، لننام نحن على فراشنا، وبين أهلنا، وهو النوم الذي ما كان ليكون لولا سهر جندنا، والدليل في هذا الذي يجري من اشتعال حرائق من حولنا تحرق الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل، ولكن جنودنا يمنعون امتداد نيرانها إلينا.
يفعل جنودنا ذلك كله، لأنهم اختصروا الحكاية كلها في الشعار الذي رفعوه، والذي يستهلون به حديثهم عن علاقتهم بالوطن بعبارة تقول «وطن لا نستطيع أن نحميه لا نستحق أن نعيش فيه»، وهي عبارة توحي بالكثير من الدلالات لمن يريد أن يفقه، وأول ذلك أنها تقرن الوطن بالحياة، لكن ليست أية حياة، فلا قيمة للحياة إن لم تكن عزيزة كريمة، في وطن عزيز كريم، يزنره جنوده بسواعدهم، ويفدونه بأرواحهم فعلاً لا قولاً، كما يفعل عسكر الأردن الذين يؤمنون بأن الفداء هو ضريبة المواطنة ولُحمتها وسداها، وهو إيمان مارسوه ولم يبقوه شعاراً، والدليل في هذه القوائم الطويلة من أسماء الشهداء، التي تزين مداخل وساحات معسكرات الشرف التي يأوي إليها عسكرنا، لنيل بعض الراحة بين جولة وأخرى من جولات المرابطة، التي يحرسون بها حدود وطننا، فهؤلاء هم الرجال الذين يعطون للشعارات معانيها ويحولونها إلى رجال يمشون على الأرض. ويبعثون فيمن يتعامل معهم إحساساً بالفخر الذي يُشعر بالطمأنينة ولا يولد الغرور.
بعد الذي عشناه وعايشناه يوم السبت الماضي، ترسخت عندي القناعة بأنه إذا أردنا أن يكون في عمان، وغيرها من حواضر وطننا رجال بحجم الشعارات التي يرفعونها، فإن علينا أن نُخضع رواد الصالونات السياسية، ومنتديات الثرثرة في عمان، وسائر حواضرنا، إلى دورات تأهيل وتدريب في معسكرات جيشنا العربي عن كيفية تحويل الشعار إلى ممارسة، والمبدأ إلى نهج حياة، والإنجاز إلى فلسفة عمل، فهذا هو الطريق للإصلاح الشامل، وإلى خروجنا مما نحن فيه، ونشكو منه.
هذه واحدة تقودنا إلى أخرى هي أهمية إعادة خدمة العلم، لتتولى قواتنا المسلحة من خلالها تدريب وتأهيل شباب وطننا، على معاني الانتماء، والفداء والتضحية، والإنتاج وقدسية العمل وشرفهما، ولهم من أبناء قواتنا المسلحة النموذج والقدوة، فهؤلاء الذين اجتمعنا ببعضهم يوم السبت الماضي، يرابطون في خنادقهم، وفي أبراج المراقبة وفي دورياتهم المتحركة وفي قاعات السيطرة، يفعلون ذلك كله تحت شمس آب الحارقة التي قالت عنها أمثال أهلهم « آب اللهاب»، ومع ذلك فإن هؤلاء الأهل لم يبخلوا على الوطن بفلذات أكبادهم يدفعونهم تحت شمس آب اللهاب لحراسة الأرض والعرض، فجنودنا فوق أنهم أبناء أعرق عشائر الأردن وأكبرها، فإنهم خريجو أهم جامعات العالم، بمختلف الاختصاصات وأدقها، خاصة في مجال العلوم التطبيقية الذين أكملوا بنيانهم المعرفي والوطني بالتحاقهم بقواتنا المسلحة، وهو الاكتمال الذي نريده لكل شباب الأردن من خلال التحاقهم بخدمة العلم، التي نطالب بعودتها خدمة لوطننا، الذي يحتاج إلى السواعد المدربة والقلوب المؤمنة به، وقواتنا المسلحة خير مدرسة للتدريب ولزرع الإيمان في القلوب. وهو الإيمان الذي لمسنا بعض ثماره أثناء زيارتنا للمنطقة العسكرية الشرقية، حيث الأسود الضواري يحرسون حدود الوطن، ليس لديهم لأعدائه والمتربصين به إلا الموت الزؤام، بينما يستقبلون بالحب والحنان كل طالب ضيافة، فعندهم أن بوابات الأردن مفتوحة لكل زائر لكن جدرانه عصية على كل اللصوص.
الرأي