ثمة ما يمكن رصده من صراع يتّخذ طابعاً جيوسياسياً بين القوى الكبرى, عكسه من بين ملفات وقضايا أخرى, المسعى الأميركي المُستجد في الاهتمام الطارئ بالقارة السوداء. التي طالما كانت ساحة صراع مفتوح ومحتدم بين القوى الغربية الإستعمارية، وخصوصاً بين فرنسا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى مثل بلجيكا وألمانيا وهولندا ناهيك عن إسبانيا والبرتغال. غير أن دخول الولايات المتحدة أوائل الألفية الجديدة كان في بعض تجلياته مطاردة النفوذ الفرنسي، قبل أن «تستفيق» الإدارات الأميركية المتعاقبة, على حقيقة تعاظم النفوذ الصيني في إفريقيا، وتلاه مؤخراً الحضور الروسي الذي اختلف عن النفوذ الذي تمتّع به الإتحاد السوفياتي في النصف الثاني من القرن العشرين, عبر دعمه غير المحدود لحركات التحرّر الوطني الإفريقية, والتي كانت في غالبيتها معادية للإستعمار.
الدول الكبرى الثلاث الصين، روسيا والولايات المتحدة, التي أظهرت اهتماماً متفاوت الأهداف بإفريقيا, لجأت إلى ما يمكن وصفه «دبلوماسية القمم المُوسّعة» لاستمالة قادة ودول القارة الغنية بالثروات الطبيعية والسوق الإستهلاكية الكبيرة, إضافة إلى ما تحتويه من مواقع استراتيجية, في الصراع الدائر على النفوذ بين «الكبار»، خاصة في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد دعت إلى عقد قمة أميركية إفريقية في عهد الرئيس الأسود/أوباما, الذي راهن عليه الأفارقة (فقط للون بشرته, متجاهلين طبيعة النظام الرأسمالي/النيوليبرالي, الذي تقوده الولايات المتحدة)، استضاف أوباما قمة كهذه عام 2014, فإن الصين كانت سبقته منذ عام/2000 عندما عُقد أول «منتدى» تعاون صيني/إفريقي, ثم تواصلَ كل ثلاث سنوات منذ ذلك الحين حتى الآن. فيما عُقدت أول قمة روسية/إفريقية عام 2019، ضمن مساعي موسكو لمواجهة سلسلة العقوبات القاسية التي فرضتها عليها الولايات المتحدة/والاتحاد الأوروبي بعد ضم شبه جزيرة القرم لعام 2014, إثر الإنقلاب «الملوّن» الذي وقع في أوكرانيا في آذار من العام ذاته.هنا يمكن التوقف عند الأسباب التي دعت إدارة بايدن إلى «إحياء» اهتمامها بافريقيا, بعد ثماني سنوات على القمة الأولى التي دعا إليها أوباما, خاصّة أن القمة تلك لم تُصب نجاحاً يذكر، إن على صعيد احتواء النفوذ الصيني المتصاعد, أم في «لجم» الحضور الروسي المتزايد وخاصّة في دول وسط وغربي القارة السوداء. اللهم إلاّ حصر الإهتمام الأميركي المستجد بإفريقيا, في البحث عن مصادر الطاقة التي تتوفر عليها حيث تقول الدراسات أن إفريقيا تنتج 9% من مجمل الطاقة (نفطاً وغازاً) عالمياً، إضافة للثروات الطبيعية الهائلة التي تختزِنها.اختتمت القمة الأميركية – الإفريقية أعمالها في واشنطن بعد ثلاثة أيام من الإجتماعات والندوات واللقاءات ذات الأبعاد المتعدّدة. حيث وظّفتها –أميركا – منصّة للتحذير من «الدور المزعزع للاستقرار لكل من الصين وروسيا في إفريقيا، مع تنامي نفوذهما» على ما قال وزير الدفاع الأميركي/أوستن، مُعتبراً أن الصين «تعزز تواجدها في افريقيا (بشكل يومي) من خلال تنامي نفوذها الاقتصادي، فيما تُواصِل روسيا «بيع أسلحة رخيصة» ونشر «مُرتزقة في أنحاء القارّة».في إطار الحرب الأميركية على «الدوريْن» الصيني/والروسي، تواظِب الولايات المتحدة على استخدام مصطلح «فخ الديون» الذي تزعم أن الصين تضعه الدول القارة السوداء, عبر منحها المزيد من القروض التي لا تلبث أن تتراكم, حتى تجد معظم الدول الإفريقية نفسها «عاجزة» عن تسديد تلك الديون، ما يمنح الصين «فرصة للهيمنة على اقتصادها وتملّك منشآتها الحيوية. وهو أمر يبدو مُصطنعاً ومُبالغاً فيه, خاصة أن بيجبين أسقطت معظم الفوائد على تلك الديون, وأبقت على «أرقام» الديون عند التوقيع عليها. أما في ما خصّ روسيا فإن واشنطن لم تتوقف عن وصف الحضور الروسي, بأنه شبيه بسيناريوهات الحقبة السوفياتية وأن موسكو تستخدم «مجموعة فاغنر» (شركة روسية شبه العسكرية خاصّة) للتغلغل في إفريقيا ودعم أنظمة موالية لموسكو, كما هي الحال في مالي مؤخراً وجمهورية افريقيا الوسطى قبلها.في السطر الأخير...رغم كل ما قيل خلال القمة الأميركية الإفريقية, والوعود التي بذلتها واشنطن خاصّة في شأن تخصيص 55 مليار دولار لإفريقيا على مدى ثلاث سنوات. فإن ردود الأفعال على نتائج أعمال هذه القمة لم تكن متفائلة, نظراً لأن إدارة بايدن غير قادرة على ترجمة وعودها إلى حقائق ملموسة, فضلاً عمّا تميّزت بها تصريحات أركانها من تحذيرات للقادة الأفارقة, من أن «تنمية العلاقة بين الدول الإفريقية والصين سيكون لها تداعيات «سلبية» على علاقات هذه الدول مع الولايات المتحدة, على ما حذّر ناطق البنتاغون باتريك رايدر.فهل يُؤسِّس تحذيراً كهذا لـ"شراكة» حقيقية بين الولايات المتحدة وإفريقيا, كما يزعم رئيس الدبلوماسية الأميركية/ بلينكن أن بلاده تسعى الى تكريسها؟.kharroub@jpf.com.jo