قبل أيام كنا في عشاء مع رئيس وزراء اسبق، في منزل وزير سابق ايضا، والكلام تناول كل الملفات التي تخص الاردن، ليس السياسية فقط، بل كل ما يخطر في بال كثيرين، لان كل هذه الملفات تصب نهاية المطاف في السياسة بشكل دقيق، اما تعبيرا عنها، واما تأثيرا عليها بشكل أو آخر.
خلال الكلام كان لي رأي حول ما سيكون عليه الاردن، بعد عشر سنوات، وأشرت الى اننا نحتاج دائما الى دراسات تحليلية، وارقام واحصائيات، وتوقعات مبنية على اسس، لكنك احيانا لست بحاجة الى كل هذا، إذ إن مشهدا واحدا سيلخص لك كل القصة، دون مبالغة او سوداوية.زدت على الكلام سطرين، وأشرت الى انني نهاية الفصل الدراسي الثاني من العام الماضي، مررت صدفة في فترة امتحانات المدارس قرب احدى المدارس الحكومية، فشاهدت بنفسي مئات الطلبة وهم يخرجون من المدرسة، ويقومون بشكل هستيري وجماعي بتمزيق ملخصاتهم، وأوراقهم، ودفاترهم، وكتبهم التي كانوا قد تركوها خارجا، وبحيث تطايرت آلاف الأوارق قرب المدرسة، وكأنهم ينتقمون من حياتهم، ومن دراستهم، حتى لو كان ظاهر الامر احتفالا بانتهاء الامتحانات.هذه القصة لم تكن جديدة، بل ان كل المدارس الحكومية، تشهد ذات المشهد، عند نهاية الامتحانات، والطلبة الذين سيقودون الاردن في المستقبل، يتصرفون بهذه الطريقة.كان رأيي في العشاء ان المستقبل ليس مبشرا، والقصة ليست قصة مدارس الحكومة في هذا الزمن حصرا، فهذه تراكمات عمرها عشرات السنين، حتى لا يكون النقد مبطنا هنا، ضد مرحلة محددة، لاننا نتحدث عن واقع يضعف فيه التعليم، مثلما ان العائلات ذاتها لا تتولى مهمتها في الاغلب في تربية الابناء، وليس ادل على ذلك من اننا اذا دخلنا اي حي او زقاق، لوجدنا مئات الاطفال من عمر السابعة حتى الثامنة عشرة يلعبون كرة القدم معا، او يتشاجرون، او يتسكعون أو يتسامرون ويدخنون السجائر على ارصفة البيوت، بيوتهم او حتى بيوت غيرهم.اذا اردت ان تقرأ المستقبل، عليك ان تقرأ الواقع، لان القصة ليست قصة غيبيات، والواقع صعب ومرير، من حيث جودة التعليم، ووضع المعلمين، وطريقة التعليم ذاتها، وكيفية صناعة الاجيال، وهوية هذه الاجيال، واحترامها لبلدها، وقيمها، وتعليمها، وعائلتها، وغير ذلك.قبل شهور نشرت احدى وسائل الاعلام في الاردن، صورة وفيديو، لمئات الطلبة ايضا يقومون بتمزيق كتبهم، ودفاترهم، وينتقمون منها، شر انتقام، ويستحيل هنا ان يفعل المجتهد او المتفوق ذلك، لتسأل نفسك عن اي مستقبل نتحدث ونحن ننتج هذه الاجيال التي بلا هوية، ولا تعليم حقيقي بمعايير الجودة، ولا تربية، ولا انضباط، بل اننا نسأل هنا عن الذي يفعله الاباء المحترمون الذين لا يزورون مدارس الابناء مرة في العامين، وعن الامهات اللواتي يطلبن من الاولاد الخروج للشارع لتخفيف الازعاج داخل البيت، دون ادنى سؤال عما قد يتعرضون اليه، في زمن الانترنت، والمخدرات، وسوء الخلق، وغير ذلك من ظروف توجب اساسا ضبط الابناء.لدينا اليوم طبقات، فأبناء المدارس الخاصة، يختلفون تماما عن ابناء المدارس الحكومية، لكن الطبقة الغالبة هي ابناء المدارس الحكومية، وهؤلاء فوق الذي نراه من ظواهر ليست ابنة عام 2022 بل تتراكم منذ عشرات السنين، امامهم مستقبل اصعب، بسبب كلف التعليم في الجامعات، وهو تعليم منخفض الجودة ايضا، وتنافسيته قليلة، اضافة الى ما سوف يواجهونه من بطالة، وفقر، وانغلاق افق في الحياة، بما يولد ظواهر اكثر خطورة على المجتمع.للصدفة ايضا رأيت يوم الخميس مشهدا قرب مدرسة في حي شعبي، وكأن قدري ان اتورط في مشاهد المدراس، اذ خرج عشرات الطلبة، وبدأوا بالمزاح الثقيل، عبر خلع حقائب ظهورهم، وكل طالب يلطم الطالب الاخر بحقيبته على رأسه او وجهه او ظهره، وكنت امام مشهد مريع، حين يتبادل العشرات اللكمات بواسطة الحقائب، وقد تدلت السجائر على شفاه اغلبهم بكل جرأة.هذا ملف يتجاوز مؤسسات التعليم، هذا ملف دولة، والدول التي لا يغيب فيها العقل المركزي، تستنفر بقوة امام هذه الكارثة، اي التحولات التي نراها، وتتداعى كل اركانها، وتهلع من المشهد، لاننا امام خطر بنيوي يلغم مستقبلنا، ويجعلنا امام الهاوية.هذا ما زرعناه، فلا تستغربوا ما سوف نجنيه لاحقا.
هذه الكارثة التي نتعامى عنها
مدار الساعة (الغد) ـ