انتخابات نواب الأردن 2024 اقتصاديات أخبار الأردن جامعات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب رياضة مقالات مختارة مقالات مناسبات شهادة جاهات واعراس الموقف مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

الجرو


يوسف غيشان

الجرو

مدار الساعة (الدستور) ـ نشر في 2022/11/17 الساعة 01:17
«كان أول وآخر المتزلفين لجناب حضرتي؛ لم أدرك ذلك إلا بعدما فقدته، لكن هذا لم يمنعني من قيادة أوركسترا العويل مع إخوتي الأصغر، حتى قبل أن يشرع في النزع الأخير.
نمر، نعم، نمر، كان اسم القاتل. الغريب إن الوالد والوالدة استقبلاه بترحاب لا يليق بقامته ولا بظهره المحدودب لكأنه الممثل البديل في فيلم (أحدب نورتردام) مع أن هذا النمر المزيف لم يكن سوى موظف بلدية صغير أنيطت به مهمة تسميم الكلاب، كلما انتشر مرض السعار في المنطقة.
لا أذكر كيف أدركت اللعبة لحظة دخول الرجل إلى حوش البيت، ربما كنت بالسادسة. حتى الجرو أحس بهول ما يحدث؛ فازداد التصاقا بي وهو يرتعد؛ فاحتضنته ثم شرعت مع إخوتي بالزعيق. أخي لم يكتف بالمشاركة في الكورال، بل انغمس أيضا في أداء رقصة تعبيرية وانهمك في التمرمغ فوق تراب الحوش الملظوم بمخلفات الدجاج والأرانب التي تربيها الوالدة معنا في ذات (الفيلا).
بالكثير من التبجح نهض النمر، وأخرج قطعة لحم حمراء مكعبة بشكل لافت، غمسها بمسحوق أبيض ثم قرّب يده الممدودة من الجرو الذي لعقها بامتنان، لم يدرك إلا متأخرا بأنه لعق يد الرجل غير المناسب وفي الوقت غير المناسب إطلاقا. أستدرك؛ فقد نسيت حالة الحداد وهجمت على قطعة اللحم وحاولت اختطافها من كف النمر قبل أن يقضمها الجرو. لكن النمر استأسد عليّ وردني بوحشية، فيما أكملت الأم المقرر وأوسعتني ضربا وشتما وهي تصرخ مثل طرزان.وتقول وتكرر:
ــ ولك مسمومة يا بغل !!!!!!
لم افهم في البداية ماذا تعني كلمة «مسمومة»، على اعتبار أنى فهمت كلمة بغل تماما (اسم الدلع) ...قطعة لحم حمراء رائعة توهب لجروي الذي توهمت بأنهم يتآمرون عليه، بينما يتعين علي الصمود لشهر أو أكثر قبل الحصول على قطعة مشابهة على الغداء.
أقعيت متلمظا وأنا أحدق بالجرو وهو يلتهم قطعة اللحم بكل أبهة حتى أجهز عليها .... أصابته أولا حالة من المرح الزائد فور ازدراد المكعبات اللحمية، ثم صار يطارد ذيله ويدور حول ذاته مثل أي كلب مدلل. بعد قليل صارت حركاته أكثر عشوائية، ثم شرع يقع ويقوم بشكل مرتبك مثل سكران جديد على الصنعة.
هنا فقط أدركت حجم الكارثة، فقد تم تمويت جروي بواسطة قطع اللحم المكعبة التي كنت أحسده عليها.
توقفنا عن العويل حينما بدأ الجرو يتمايل، صمت يشبه جرحا مفاجئا، لم يقطعه سوى عويل الجرو المسكين، سقط ثم قام ... سقط ثم قام ثم لم يستطيع النهوض، فانجعى على جانبه، ثم جاهد ليأخذ وضعا إقعائيا لكنه لم يفلح، ونجح فقط في أن يركي ذقنه على قدميه .... نظر إلينا بقنوط. ثم نام إلى الأبد.
صمتٌ أكثر حلكة انهال علينا، لم يقطعه سوى رشفة الشاي الأخيرة من براطم النمر، الذي زأر موجها كلامه للجميع:
ــ ادفنوه كويس.
كانت هذه أول مواجهة لي مع الموت، وأذكر أني ارتعبت من الداخل وهزني قلق وجودي لا يليق بعمري، إذ كان على أن أهرق المزيد من السنوات قبل أن أدرك أنني أيضا قادر على الموت وأنني سوف أتناول قطعتي المسمومة رغما عني. لكني تعلمت ألا أتعاطى اللحم من أيدي الآخرين، وألا أتناوله إلا إذا دفعت ثمنه عرقا وجهدا».
مدار الساعة (الدستور) ـ نشر في 2022/11/17 الساعة 01:17