مع تواصل التحقيقات في ما بات يُعرَف في تونس ملف «شبكات التسفير لبؤر التوتر», والمقصود ببؤر التوتر سوريا والعراق. خاصة أن الأضواء مُركزة الآن على زعيم حركة النهضة/الشيخ راشد الغنوشي ورئيس حكومته الأسبق/علي العريّض. يمكن القول: إن الحركة.. قياداتها, كوادرها وجمهورها, تواجه أخطر أزمة تعيشها منذ أن تسيّدت الساحة التونسية بعد ثورة «جانفي/2011» التي أطاحت نظام بن علي وجاءت بحليف النهضة المنصف المرزوقي رئيساً توافقياً (وليس مُنتخَباً) مع إحكام قبضتها على المشهد التونسي, ووجدت فرصة أن تصدرها المشهد التونسي تزامن م? اندلاع موجات ما وُصف تضليلاً الربيع العربي, خاصة بعد أن خطف «الإسلامويون» الاحتجاجات ولجأوا كعادتهم إلى العنف واستخدام السلاح وترهيب خصومهم, وتحديداً بعد أن ألقت عواصم إقليمية وخصوصاً دولية وعلى رأسها إدارة أوباما بثقلها إلى جانبهم. ما حوّل تلك التنظيمات المزعومة إلى جيوش كبيرة يتمّ رفدها بالمتطوعين «الجهاديين» وتدفق الأسلحة الحديثة عليهم. ودائماً في توالي إصدار الفتاوى التي تبيح القتل والحرق والإعدامات الميدانية وتضيّق على النساء وتكفير الآخرين وتدمر المعالم الحضارية.
ما علينا..مَن يعود قليلاً إلى الوراء يلحظ إمساك حركة النهضة بل إحكام قبضتها على البلاد خلال العامين 2011-2013، حيث غدت صاحبة الأمر والنهي ليس فقط في أن ساكن قصر قرطاج/المرزوقي, شاركها توجهاتها السياسية وبخاصة مشروعها, الذي هو جزء من برنامج إسلاموي إخواني الطابع والجوهر، بل وأيضاً نجاح «إخوانه» في مصر بالوصول إلى السلطة بعد إسقاطهم كل التفاهمات مع أطياف المعارضة المصرية الأخرى, وتنكُّرهم لوعودهم وعدم الوفاء بعهودهم. بل لم يكتفوا ببسط سيطرتهم على مجلس الشعب (اسمه الآن مجلس النواب) بل وجاءوا بـ«د.محمد مرسي».. رئيساً. م? أثار الانطباع بأنّ ذلك إنما يندرج في مشروع تسليم المنطقة لـ«جماعات» الإخوان المسلمين, التي جرى وصفها بـ«الاعتدال», بعد انكشاف الصفقة بين واشنطن/وأنقرة, وترويج الأخيرة للجماعة لدى أوباما, الذي كان ألقى خطابه الشهير في جامعة القاهرة, بكل ما انطوى عليه واستبطنه من إشارات وتسويق لمعادلات وترتيبات كانت قيد التشكّل والبروز.عودة إلى ملف التسفير لبؤر التوتّر..ثمة «126» شخصاً يجري التحقيق معهم في هذه القضية الخطيرة, التي يمكن أن تسفر عن توجيه اتهامات أكثر خطورة لكل من يثبت تورّطه في هذا الملف, الذي ذهب ضحيته عشرات بل مئات التوانسة من رجال ونساء, جرى إرسالهم إلى سوريا والعراق تحت دعاوى الجهاد في سبيل الله وقتال الكُفار, وغيرها من المُصطلحات التي يبرع الإسلامويون, بتحريض وتمويل وترويج من قوى إقليمية عربية/وغير عربية وأخرى دولية في ابتكارها وتسويقها.للمرء إن أراد البحث عن الخطابات النارية والتصريحات التحريضية التي ألقاها الطبيب والحقوقي العالمي المُدافع عن حقوق الإنسان/رئيس الصدفة في تونس المُنصف المرزوقي, ودعاته التوانسة للإسهام في إسقاط الأنظمة «الديكتاتورية» والسفر إلى ساحات الجهاد (لن ننسى هنا خطبة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي, بإعلان الجهاد في سوريا وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. كذلك ما كانت تفيض به تصريحات الغنوشي وقيادات حركة النهضة وكوادرها في هذا الشأن).مَثُلَ الشيخ الغنوشي أمام قاضي التحقيق في اليومين الماضيين, كذلك أحد قادة النهضة وهو رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض, إضافة إلى شخصيات أخرى سياسية ومدنية وأخرى عسكرية, نواب سابقين ورجال أعمال، ما يدحض بيانات حركة النهضة بأنها مُستهَدفة. و«تآمُر» الرئيس التونسي المُتهم الآن من قبلها بالديكتاتور وقيادة إنقلاب على الثورة, خاصة بعد قرارات 25 تموز 2021 التي أصدرها. والقاضية بإقالة حكومة هشام المشيشي وخاصة حلّ البرلمان الذي كان يرأسه الشيخ الغنوشي نفسه. وما تلاه من قرارات واستفتاءات تعلّق بعضها بدستور جديد للبلا?, وقبلها تشكيل حكومة ترأّستها لأول مرة في تاريخ تونس (والمنطقة العربية) امرأة هي «نجلاء بودن»، ناهيك عن تحديد يوم 17 كانون الأول القريب موعداً لانتخاب مجلس نواب «جديد».وإذ من السابق لأوانه التكهن بالنتائج الذي سيفضي إليها التحقيق الجاري الآن في شأن ملف «التسفير نحو بؤر التوتر»، وبخاصة مدى تورط حركة النهضة في الملف بهذه الدرجة أو تلك، فإن ما تبثّه حركة النهضة من بيانات وما يطلقه أركانها ومحاموها من تصريحات, تزعم أن «لا دلائل تُدين قيادات الحركة, وأن ملف التُهمة الموجهة إلى هذه القيادات فارغ ولا يحتوي على أي إدانة لها», لا يمكن اعتماده وسيكون موضع اختبار عندما تنتهي التحقيقات ويصدر قرار الاتهام بحق من يتم تحويله إلى المحكمة. ما قد يحمل بين طيّاته الكثير من المفاجآت وانكشاف?حقائق وأدلة وخفايا، قد لا تكون معروفة للرأي العام التونسي كما العربي أيضاً.الانتظار لن يطول.kharroub@jpf.com.jo