أطاحت التصريحات المُفاجئة التي أطلقها أكثر من مسؤول تركي, في مقدمتهم الرئيس أردوغان نفسه, عندما أعلن خلال مشاركته في فعاليات الذكرى/951 لمعركة «ملاذكرد» بانتصار السلاجقة على البيزنطيين عام/1071. نقول: أطاحت تلك التصريحات «التفاؤل» النسبي الذي ساد مؤخراً, واحتمال انخراط أنقرة ودمشق في حوار قد يُفضي (لو تمّ) إلى مُصالحة مُتدحرجة, خاصة بعد تأكيد أردوغان الخميس الماضي أن بلاده «مُصرّة على تأمين حدودها مع سوريا بعمق 30 كم». بل مضى إلى القول: «أُعلِن للعالم أجمع أن نضالنا مستمر حتى نُؤمِّن حدودنا الجنوبية بـِ"ممر» عمقه 30 كيلو متراً، ما يعني ضمن أمور أخرى، عودة التهديد التركي باجتياح «خامس» للأراضي السورية, وهو أمر أعلنت موسكو وطهران فضلاً عن واشنطن معارضتها «العلنِية» لعملية عسكرية كهذه.
وإذا كان رئيس الدبلوماسية التركية (مولود أوغلو) أعلن في تصريح لافت أن «لا» شروط تركية مُسبقة للحوار مع دمشق, في تأكيد على ما ذهب إليه أردوغان خلال عودته من زيارة لأوكرانيا, أنه «لا يُمكن مُطلقاً استبعاد الحوار والدبلوماسية مع دمشق", لافتاً إلى أن الدبلوماسية بين الدول «لا يمكن قطعها بالكامل».فما الذي تغيّر إذاً خلال أقل من أسبوع على استدارة تركية كانت غير مُتوقعة اجتهد كثيرون وانخرطوا في عمليات تحليل وتكهنات حداً وصل ببعضهم التبشير بمشهد إقليمي جديد في طريقه إلى التبلور والبروز, بعد عقد دموي تصدرته التوترات والحروب والاجتياحات والغزوات, تعرّض لها أكثر من بلد عربي في ما سمّي زوراً وتهكّماً «الربيع العربي"؟لافت أيضاً «الصمت» الذي لاذ به مولود شاويش اوغلو (حتى الآن), فيما تصدّر الصفوف وزير الدفاع التركي (خلوصي أكار), الذي لم يكتفِ بالحديث عن تواصل العمليات العسكرية حتى تنظيف «عش الإرهاب» في تل رفعت ومِنبج «نهائياً» من الإرهاب, وأن موعد العملية سيتحدّد عندما تكتمل الظروف لبدئها، بل ذهب بعيداً في دعوته إلى «وضع دستور جديد لسوريا بالسرعة المُمكنة, حتى تجري على أساسه انتخابات تنبثق عنها حكومة شرعية». ما يؤشر إلى وجود معسكرين أو وجهتي نظر في الحكومة التركية, إحداهما تعارِض بشدّة أي حوار مع دمشق, إلاّ إذا التزمت الشروط التركية المُحدد بعضها في ما أشار إليه الجنرال/آكار عن «دستور جديد وانتخابات وحكومة شرعية (...) وعودة اللاجئين السوريين واستعادة ممتلكاتهم, وخصوصاً وهذا شرط جديد «ملغوم» يتمثّل في إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا «عدم» انسحاب القوات التركية إلاّ بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية والروسية والإيرانية وحزب الله من سوريا، إضافة بالطبع إلى وقف نشاط حزب العُمَّال الكردستاني التركي PKK كما جاء في تحليل لصحيفة تركية ("خبر تُرك».. وفق ترجمة المختص بالشؤون التركية/محمد نور الدين).أما المعسكر الآخر/أو وجهة النظر الأخرى المتوقع وجودها وليس بالضرورة انها فاعلة ومؤثرة, فيبدو انها «خسِرت» الرهان على حوار متوقع مع دمشق, أثيرت حول شكوك كثيرة وتساؤلات, خاصّة أن الهوّة التي تفصل بين دمشق وأنقرة واسعة وعميقة يصعب التجسير عليها, رغم الأجواء التي اشاعتها التصريحات الروسية وتعقيب أنقرة عليها, وتحديداً بعد دعوة لافروف إلى إحياء اتفاق أضنة 1998، الذي رأته أنقرة على لسان أردوغان أنه «غير واقعي».من السذاجة فصل التشدّد التركي الأخير وعودة الإصرار على القيام بعملية عسكرية تفضي إلى إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً, عمّا يجري داخل تركيا نفسها من تشنجات واحتقانات وضربات تحت الحزام بين النظام والمعارضة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية واحتمال تبكير موعدها في ظل عدم توافق الأحزاب المعارضة/الستة على مرشح واحد ينافس أردوغان, ناهيك عما يحدث في المنطقة, ليس فقط في توقّع إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي لا تفصله سوى أمتار قليلة عن التوقيع عليه, كذلك في ما يجري من ضربات عسكرية متبادلة بين قوات الاحتلال الأميركي في شرقي سوريا وقاعدة التنف, عند المثلث الحدودي العراقي الأردني السوري. ما رأت فيه دوائر عسكرية ودبلوماسية متابعة أنه رسائل ضغط متبادلة لإنضاج ظروف تطيح محاولات إحياء الاتفاق النووي, أو الدفع به نحو النضوج خاصّة أن إسرائيل تواصل غاراتها الجوية على مواقع سورية تزعم انها قواعد للحرس الثوري الإيراني/وحزب الله.في الخلاصة.. تبدّد التفاؤل الحذِر والنِسبي الذي ساد مؤخّراً, حول إمكانية مواصلة تركيا سلسلة استدارتها نحو عواصم المنطقة ومنها دمشق. ولم تعد ثمّة شكوك بأن تدهوراً متوقعاً قد يحدث في أي لحظة, لا يقتصر على علاقات أنقرة بسوريا بل يتعداه إلى موسكو وطهران وربما واشنطن, إلاّ إذا باعت الأخيرة «كُرد سوريا/قوات قسَد».. لأنقرة, بهدف استمالتها ضد موسكو.kharroub@jpf.com.jo