مدار الساعة - ابتكر المخترعون خلال القرن العشرين العديدَ من الأشياء المروعة، فتوصلوا إلى القنابل الذرية والمدافع الرشاشة، لكن على الرغم من ذلك عُدَّ توماس ميدغلي أخطر المخترعين في التاريخ، وأكثرهم تدميراً للبشرية، وربما هو واحد من أكثر الشخصيات مأساوية في القرن العشرين.
وذلك بسبب اختراعه لكلٍّ من البنزين المحتوي على الرصاص وغاز الفريون، وهما مادتان أسهمتا على المدى الطويل في حدوث ثقب الأوزون والاحتباس الحراري، بالإضافة إلى وفاة الكثير من الأشخاص متأثرين بالسرطانات التي سببتها هذه المواد.
وفي هذا التقرير نستكشف معاً جوانب من حياته وسيرته المهنية:
موهوب في الكيمياء
ولد ميدغلي في 18 مايو/أيار عام 1889، في مدينة بيفير فولز التابعة لولاية بنسلفانيا الأميركية، ثم انتقل وعائلته عام 1896 إلى مدينة كولومبوس عاصمة ولاية أوهايو، وتخرج في جامعة كورنيل عام 1911 متخصصاً في الهندسة الميكانيكية، وتزوج، في أغسطس/آب، من السنة نفسها.
كان ميدغلي موهوباً في مجال الكيمياء؛ إذ بدأ أولى خطواته العملية كيميائياً في مختبرات دايتون للأبحاث الكيميائية، التابعة لشركة General Motors، ثاني أكبر منتج للسيارات في العالم، ثم مسؤولاً عن الأبحاث العلمية في شركة والده لإطارات السيارات، ليعود بعد ذلك إلى شركة General Motors كباحث كيميائي.
كرَّس الكيميائي الأميركي في عام 1916 جهده لإيجاد المادة الفعالة التي من شأنها تحسين احتراق البنزين، وجعل محركات الاحتراق أكثر كفاءة وأخف طرقاً، وسرعان ما أدرك أن سبب الطرق العالي لمحركات السيارات ليس نظام التشغيل، إنما بسبب خليط الوقود.
ومن هنا اكتشف بعد إجراء العديد من التجارب أن إضافة الرصاص رباعي الإيثيل إلى البنزين، يمنع حدوث الطرق في محركات الاحتراق الداخلي، وذلك عام 1921.
كيف ألحق الضرر بالنظام البيئي للكرة الأرضية؟
كانت الآثار السامة للرصاص معروفة جيداً في ذلك الوقت، منها أنه يؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأوبئة والأمراض، مثل العمى والسرطان بأنواعه، والفشل الكلوي، بالإضافة إلى الشلل والهلوسة المفاجئة التي لا تنفك أن تتطور إلى غيبوبة، ثم تحدث الوفاة.
رغم ذلك لم يتراجع ميدغلي عن اقتناعه بإمكانية إنتاج الرصاص رباعي الإيثيل، بحجة أن جزئيات صغيرة منه لن تؤثر على الصحة العامة والبيئة، لذلك تم تسمية المادة الكيميائية التي اكتشفها "الإيثيل" دون ذكر للرصاص من قِبَل General Motors.
أصبح بعد ذلك البنزين المُرصص يُغذي 65% من السيارات في الولايات المتحدة، ليُضخ آلاف الأرطال من الرصاص في الغلاف الجوي، ما زاد من خطر الإصابة بسرطان الجلد، وتسبب في تسمم ثلاثة أجيال متتالية من الأطفال، وتضررت البيئة بشكل لا يمكن إصلاحه.
ويُقال أن ميدغلي نفسه أصيب أيضاً بمرض في رئتيه بعد عام واحد من العمل، بفعل استنشاق أبخرة البنزين في مجالات المختبرات والإنتاج، كما توفي ما يقرب من 15 عاملاً في مصانع الإنتاج في السنة الأولى.
في 1920 كانت الثلاجات ومكيفات الهواء أجهزة خطرة؛ إذ استُخدم في تشغيل نظم التبريد الخاصة بها "الأمونيا" و"الكلوروميثان" و"البروبان" و"ثاني أكسيد الكبريت"، التي تعد أكثر الغازات سُمِّية فضلاً عن قبولها للاشتعال.
إذ يمكن أن يؤدي أقل تسرب لها إلى الوفاة، لذلك استعانت شركة General Motors بخبرات ميدغلي للحصول على مادة كيميائية مختلفة، بعيداً عن المُبردات السامة والخطرة، وبالفعل في عام 1930 اخترع غاز للتبريد، أطلق عليه اسم "ثنائي كلوروديفلوروميثان" أو "الفريون"، وهو الاسم التجاري لمزيج من "الكلور" و"الفلور" و"الكربون"، والذي سرعان ما أُنتج تجارياً في غضون بضع سنوات، واستُخدم أيضاً في بخاخات مزيل العرق.
منذ ذلك الحين اعتقد الجميع أن الفريون آمن تماماً، لكن على النقيض أدركوا بعد مرور عقود من استخدامه أنه مُدمر؛ إذ يمكن أن يؤدي كيلوغرام واحد منه إلى تدمير 70 ألف كيلوغرام من طبقة الأوزون الواقية، والذي سيؤدي بالضرورة إلى وصول الأشعة فوق البنفسجية الضارة إلى الأرض، مما يتسبب في ضعف الجهاز المناعي وحدوث طفرات في الحمض النووي البشري، بالإضافة إلى قتل البكتيريا في التربة ومن ثم اختفاء النباتات، ما يترتب عليه النهاية الحتمية للحياة على سطح الأرض.
ميدغلي في عيون التاريخ
يرى المؤرخ البيئي جون روبرت منيل، أستاذ التاريخ بجامعة جورج تاون الأميركية، أن ميدغلي هو صاحب التأثير السلبي الأكبر على الغلاف الجوي من أي كائن آخر في تاريخ الأرض، كما عُدت التأثيرات السلبية التي سببها إرث ميدغلي من اختراعات، أحد الأسباب الرئيسية للعمل على فكرة يوم الأرض، من قِبل عضو مجلس الشيوخ الأميركي الأسبق غايلورد نيلسون.
الذي أعرب عن قلقه إزاء سلامة الكوكب، وحصل على دعم الجمهوريين والديمقراطيين، واختير يوم 22 أبريل/ نيسان، من كل عام بدايةً من عام 1970 ليكون اليوم العالمي للأرض.
ونتيجة لاختراعات ميدغلي أيضاً أُنشئت وكالة حماية البيئة، التي قَدرت أن ما يقرب من 5000 أميركي لقوا مصرعهم بسبب أمراض القلب المرتبطة باستنشاق الرصاص، لذلك قررت التخلص من الرصاص في البنزين تدريجياً ابتداءً من عام 1975.
وعقد اتفاقاً دولياً عام 1988 بين أكثر من 180 بلداً، نصَّ على خفض إنتاج مركبات "الكربون الكلورية فلورية" كلياً، وبالفعل قلت نسبتها في الإنتاج العالمي بشكل تدريجي حتى انتهى وجودها بحلول عام 2005 وفقاً للمنظمة الصناعية AFEAS، كذلك دعا البنك الدولي إلى حظر البنزين المُرصص عام 1996، بينما حظره الاتحاد الأوروبي عام 2000.
لكن رغم كل هذا حصل ميدغلي على أكثر من 100 براءة اختراع، كما حاز العديد من الجوائز العلمية، بما في ذلك الميدالية "الكهنوتية" من الجمعية الكيميائية الأميركية.
وفي عام 1940 أصيب بمرض شلل الأطفال، وتوفي في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1944 وعمره 55 عاماً.