متابعة لما تم نشره في بني إسرائيل-01، ومما جاء في سيرة يعقوب عليه السلام أنه رحل من بيت المقدس إلى مكان إقانة خاله لابان بأرض حران، وكان لخاله ابنتان اسم الكبرى: لَيّا، ويقال لها: ليئة، واسم الصغرى: راحيل فطلب من خاله إبنته راحيل للزواج منها، وكانت أحسنهما وأجملهما، فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى له غنمه سبع سنين، فلما مضت المدة عمل خاله لابان طعاماً، وجمع الناس عليه، وزفَّ إليه ليلاً ابنته الكبرى ليا، وكانت ضعيفة العينين، وليست بذات جمال. فلما أصبح يعقوب، قال لخاله: لم غدرت بي وانا طلبت راحيل؟ فقال له ليس من سننا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها، فعمل سبع سنين، وزوجه راحيل مع أختها، وكان ذلك مسموحا به في ملتهم. ثم نسخ في شريعة التوراة بعد ذلك، وهذا وحده دليل كافٍ على وقوع النسخ، لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته، لأنه معصوم. وبعد ذلك وهب خالُه لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية، فوهب لليا جارية اسمها زلفا او زلفة، ووهب لراحيل جارية اسمها بلها، أو بلهة. وقد جبر الله تعالى ضعفَ ليا بأن وهب لها أولاداً، فكان أول من ولدت ليعقوب، روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا. وكانت راحيل لا تحمل؛ فوهبت ليعقوب جاريتها بلها، فوطئها يعقوب فحملت وولدت له غلاماً سمَّته دان، وحملت وولدت غلاماً ثانياً سمَّته يفثالي أو نفتالي وبعد ذلك وهبت ليا جاريتها زلفا ليعقوب عليه السلام فوطإها فولدت له جاد، وأشير، ثم حملت ليا، فولدت غلاماً خامساً وسمته أيساخر او يساكر. ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمَّته زابلون أو زوبلون، ثم حملت وولدت بنتاً سمَّتها دنيا، فصار لها سبعة من يعقوب. ثم دعت راحيل الله تعالى وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب، فسمع الله نداءها، وأجاب دعاءها، فحملت، وولدت غلاماً عظيماً شريفاً، حسناً جميلاً سمَّته يوسف. كل هذا وهم مقيمون بأرض حران، وهو يرعى على خاله غنمه. ثم طلب يعقوب من خاله أن يأذن له بالرحيل، فأذن له ورحل إلى فلسطين عند أبيه إسحاق عليهما السلام. وبعد رجوعه إليها حملت زوجته راحيل؛ فولدت غلاماً وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً، وماتت علىاثر ذلك، فدفنها يعقوب في بيت لحم. وبعد ذلك مرض إسحاق، ومات عن مائة وثمانين سنة، ودفنه ابناه: العيص، ويعقوب مع أبيه الخليل عليهم السلام. وهكذا استقر يعقوب هو وأبناؤه الأسباط الاثنا عشر في فلسطين. فأبناء يعقوب الإثنا عشر هم مؤسسوا القبائل الإثني عشر لإسرائيل في التوراة. وتشير التوراة إليهم أيضاً بإسم "بني إسرائيل" أو "بني يعقوب" ويعرفون بالقبائل الإثنى عشر. وحصل ما حصل بين يوسف وإخوته، وبعد ذلك دعا يوسف والده وإخوته إلى مصر، فنزحوا من فلسطين، ومات يعقوب في مصر، فذهب به يوسف وإخوته وأكابر أهل مصر إلى فلسطين، فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي اشتراها الخليل. ثم رجعوا إلى مصر، وعزى إخوة يوسفَ، يوسفَ، وترققوا له، فأكرمهم، وأحسن لهم فأقاموا بمصر، ثم حضرت يوسف الوفاة، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر، فيدفن عند آبائه، فحنطوه، ووضعوه في تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه، كما يقول ابن كثير فيما نقله عن نصوص أهل الكتاب.
وبعد ذلك تناسل الأسباط، وكثروا، وأبوا أن يندمجوا مع المصريين، فعزلوا أنفسهم عنهم، وتواصوا فيما بينهم أن يكون لكل سبط نسله المعروف المميز عن بقية الأسباط، وذلك ليضمنوا الاحتفاظ بنسبهم، اعتزازاً به، وتعالياً على غيرهم، باعتبار أنهم من ذرية الأنبياء. وهذه العزة التي عاشها اليهود في مصر، مع الشعور المصاحب لهم من التعالي بنسبهم، جعل مقامهم في مصر قلقاً مضطرباً، وبعد ثلاثة قرون أو تزيد اضطهدهم الفراعنةُ حكامُ مصر واستعبدوهم، فبعث الله موسى نبيًّا فيهم، ورسولاً إليهم وإلى فرعون. وقد بيَّن لنا القرآن الكريم سيرة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث منَّ الله على بني إسرائيل ونجَّاهم من سوء العذاب الذي كان فرعون يسومهم به، ونصرهم عليه بقيادة موسى عليه السلام حيث إنهزم فرعون وأهلكه الله بالغرق (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (البقرة: 50)). وكان جديراً ببني إسرائيل بعد هذا النصر أن يحمدوا الله ويطيعوه، إلا أنهم أبوا إلا الكفر والذلة والمسكنة، فآذوا موسى عليه السلام وتعنَّتوا حين أُمِرُوا أن يدخلوا فلسطين الأرض المقدسة (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ, قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (المائدة: 21 و 22)). وقد أكرمهم الله وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، ولما ذهب موسى لمناجاة ربه استضعفوا هارون، وعبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من الذهب، وتعنَّتوا على موسى بعد عودته، وقالوا له (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة: 55)). ورفع الله فوقهم الطور؛ تهديداً لهم، فاستسلموا خوفاً، وأعطوا مواثيقهم، ولكنهم نقضوها، واعتدوا في السبت (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، (البقرة: 63))، فمسخهم الله قردةً وخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (البقرة: 65)). وتوالت عليهم الآيات والعبر، كقصة البقرة، والخسف، وغيرها ... الخ، ولكن قست قلوبهم، ولم تنفعهم الآيات والعنبر، فهي كالحجارة أو أشد قسوة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة: 74))، ثم توالت بعد ذلك غطرستهم، وتبجحهم، وعنادهم، وتحريفهم، وتبديلهم للتوراة مع كليم الله موسى عليه السلام وَمَنْ جاء بعده من الأنبياء عليهم السلام (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (البقرة: 87)). ثم بعث الله فيهم عيسى عليه السلام، وبدلاً من أن يُصحِّحوا خطأهم وانحرافهم، ويكفوا عن خبثهم وتزييفهم أجمعوا على قتله عليه السلام، ولكن الله عز وجل نجَّاه منهم (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (النساء: 157)).