ليس ثمة ما هو مُستبعَد في السياسة, حيث لا صداقات دائمة وخصوصاً لا عداوات أبدية, ما بالك في الاستحقاقات الجيوسياسية التي تسبِق مرحلة رسم الخرائط, والتأسيس لمحاور ومعسكرات وأحلاف وتكتلات, تعكس من جملة أمور أُخرى.. الأوزان والأحجام ومَن سيُحسَب في خانة المنتصرين, او ذاك الذي سـَ«يُدفَش» الى خندق المهزومين. خاصة بعد عشرية دموية سادت فيها الفوضى وسُفِكت فيه دماء غزيرة وأُزهقت أرواح ولحق دمار في العمران والموارد, واشتعلت فيها ساحات وأطيحت أنظمة وقيادات, على النحو الذي شهدته منطقتنا العربية في ما وُصِفَ.. «ربيعاً?عربياً».
من بين المؤشرات الدراماتيكية على استمرار الاستدارات التي دشنها الرئيس التركي تجاه دول عربية/كما إسرائيل, كذلك عواصم أخرى لم تُبادله الرغبة ذاتها.. نقول: يبدو التصريح المثير/واللافت الذي أطلقه اردوغان, وهو في طريق عودته من منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود, بعد انتهاء القمة «الثامنة» منذ العام 2019 و«الثانية» خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة التي جمعته مع بوتين, عندما كشف النقاب عن «طلب» نظيره الروسي منه «التنسيق» مع نظيره السوري, إذا ما اراد حلاً للأزمة السورية, ذاكراً/اردوغان نص عبارة بوتين وهي «حل الأزمة ?لسورية سيكون (أفضل) بالتعاون مع الرئيس السوري».ما كان لاردوغان إطلاق تصريحات كهذه أمام صحافيين أتراك رافقوه الى سوتشي, لولا رغبته الكشف عن خطوات سياسية ودبلوماسية يعتزم اطلاقها لاحقا, استكمالاً او تتويجاً لما كان بدأه قبل اشهر معدودات عربيا وإسرائيليا, وإن كان أبدى حرصا على القول ان «الوقت مُبكر على عقد قمة تجمعه بالرئيس السوري», مُبلِغاً بوتين ان العلاقات مع دمشق تتم عبر «جهاز المخابرات التركي الذي يتعامل بالفعل مع المخابرات السورية, في شأن الأوضاع الميدانية, لكن بيت القصيد والوصف لاردوغان هو الحصول على نتائج».قبل يومين رجَّحت صحيفة «تركيا» المُقرّبة من الدوائر السياسية والاستخبارية التركية, ان رئيسَيّ تركيا وسوريا, اردوغان والأسد, قد يُجريان محادثة هاتفية بناء على اقتراح من الرئيس الروسي. وإذا ما صرفنا النظر عن ان الاتصال الهاتفي لا يمكن ان يكون بديلا ناجعاً عن اللقاء المباشر, حيث يستطيع كل طرف قراءة لغة الجسد والعيون, كما ردود الافعال مباشرة فور صدورها عن مُحاورهِ, فإن مجرد حدوث الاتصال الذي طال انتظاره, تراجع تركيا محسوب عن سياسة القطيعة والانخراط التركي المباشر في الازمة السورية، ناهيك عن دعوات اردوغان المتو?صلة لاسقاط النظام السوري وعدم الاعتراف بشرعيته وغيرها من الخطوات الميدانية.من المهم هنا الاضاءة على بعض جدول اعمال قمة سوتشي الاخيرة بين بوتين واردوغان والتي جاءت بعد اسبوعين على القمة الثلاثية التي جمعتهما بالرئيس الايراني/رئيسي في طهران, حيث ألقت بظلالها التهديدات التركية المتواصلة باجتياح تركي «خامس» للشمال السوري وتحديد بلدتي تل رفعت ومنبج لاقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترا على طول الحدود السورية/التركية وهو ما عارضته بشدة روسيا/وايران, ما يعكس ايضا ارتفاع منسوب «الثقة» بين الزعيمين (وإن كانت الشكوك لم تغادر اجواء القاعة التي التقيا فيها)، ما تبدّى في تصريح اردوغان عن الرئيس ?وتين «الذي يحافظ فيه السيد بوتين على (نهج عادل) تجاه تركيا بشأن الازمة السورية»، مُضيفا انه «سيكون معنا في الحرب ضد الارهاب».. والقول لأردوغان.صحيح ان الازمة الاوكرانية تترك آثارها على علاقات البلدين سلبا كما ايجابا، وإن كان الموقف التركي مما يحدث في اوكرانيا يثير شكوك وقلق ادارة بايدن الحليف الأطلسي لاردوغان، لكن موسكو راضية «نسبياً» عن مواقف انقرة وهو ما تجلى في تصريحات رئيس الدبلوماسية الروسية لافروف سواء عندما التقى نظيره الاوكراني في انطاليا لمواصلة المفاوضات الروسية/الاوكرانية, ام خصوصا عندما «تجاوبت» موسكو مع مساعي انقرة لاستئناف تصدير الحبوب الاوكرانية الى اسواق العالم.في المجمل اذا ما تم الاتصال الهاتفي بين اردوغان والاسد فعلا، فان تداعيات هذا الاتصال لن تقتصر على الساحة السورية وعلاقات دمشق بأنقرة، بل سيكون المتضرر الاكبر هو واشنطن, التي ربما ستزيد من احتضانها ودعمها كرد سوريا, وتحول دون عودة الدفء التدريجي الى العلاقات السورية/التركية, بل خصوصا ستبذل كل ما لديها من نفوذ وموارد لاحباط العودة الى «اتفاق اضنة» الموقّع في 20/10/1998, الذي طالما دعت موسكو العودة اليه.. ناهيك عن «الهدية» التي قدمها بوتين لاردوغان عندما وافق الزعيم الروسي على أن تقوم أنقرة بتسديد مدفوعاتها ل?وسكو وخصوصا «الغاز» بالروبل الروسي, ما يُسهم في عدم نضوب الاحتياط التركي من العملات الاجنبية, وربما ينقذ اردوغان من الغضب الشعبي المتصاعد بعد سقوط الليرة التركية المدوي وارتفاع منسوب البطالة والتضخم، خاصة ان اقل من عام واحد يفصله عن الانتخابات الرئاسية.kharroub@jpf.com.jo