الأمم الحية هي التي تستلهم من تجارب تاريخها لبناء مستقبلها، وهي التي تحي ذكرى الوقائع المفصلية في تاريخها بالتعلم من دروسها وبالسير على دلالاتها.
بهذه الروحية يجب أن نحي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة التي نعيش ظلالها هذه الأيام، التي نكثر بها القول عن التحديث.أول الدروس التي نتعلمها من الهجرة النبوية هي أن الأفكار العظيمة، والتحولات الكبرى في حياة المجتمعات لا تحتاج لانطلاقتها إلى أعداد ومجاميع بشرية كبيرة،ولحكمة بعث الله أنبيائه ورسله فرادى، وفي قراءتنا للتاريخ البشري نجد أن التحولات الكبرى في المجتمعات البشرية بدأت في غالبيتها العظمى بفرد، يؤمن بقضيته فيعمل في سبيلها ويضحي من أجلها، فيجتمع من حوله الناس رويدا رويدا، فيتحقق الهدف الذي يسعى إليه، وفي اسوأ الأحوال يكون قد أسس للجيل الذي يليه لتحقيق هذا الهدف.هذا المسار للتحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات وتحديثها يبين لنا بعض جوانب الحكمة الإلهية التي جعلت التكليف للإنسان الفرد. وأن كل فرد سيحاسب على ما قدم لنفسه ومجتمعه، وهل قام بواجبه قبل أن يطالب بحقه؟.الدرس الثاني الذي نتعلمه من الهجرة النبوية، هو أن صناع التحولات الكبرى في المجتمعات لم يستثنوا فئة من فئات المجتمع من دعوتهم للمشاركة في صناعة التحول، وخاصة النساء والشباب، لذلك نرى رسول الله يبدأ بزوجته خديجة وبابن عمه علي رغم صغر سنه، وبعدد محدود من الشباب، وفي تأملنا لقصص الأنبياء في القرآن الكريم سنجد أن للمرأة أما وأختا وزوجة دورا حاسما في حياة كل رسول ودعوته لتغيير مجتمعه،وكذلك دور الشباب، وهذا مؤشر إلهي آخر على سنن إحداث تغيير وتحديث المجتمعات نستلهمه من ذكرى الهجرة النبوية الشريفة.ثالث الدروس التي نستلهمها من الهجرة النبوية، هو أن تغيير المجتمعات يحتاج أولا إلى إعداد النخب التي تكون قادرة على حمل أعباء التغيير، وهذا الاعداد يحتاج إلى إعداد هذه النخب وتأهيلها من خلال التربية والتثقيف، لذلك رأينا رسول الله عليه السلام يحول دار الأرقم ابن أبي الأرقم إلى مدرسة لإعداد النخب تربية وتثقيفا بمبدأ الدين الجديد الذي يراد تغيير المجتمع وبناؤه على تصوراته.الدرس الرابع الذي نتعلمه من الهجرة النبوية ويصب في هدف التغيير، هو أهمية البحث عن عناصر القوة وتوظيفها لتحقيق الهدف، لذلك كان يدعو الرسول لإسلام أحد العمرين، لذلك عندما أسلم عمر بن الخطاب، وكان قد سبقه إلى ذلك حمزة بن أبي طالب، وقع التطور الكبير ودخل العمل مرحلة العلنية، وهذا يقودنا إلى مغازي قوله تعالى «أن خير من استأجرت القوي الأمين». فالأقوياء الأمناء هم القادرون على العمل المنتج القادر على إحداث التغيير.خامس الدروس التي نستلهمها من الهجرة النبوية هو الصبر وطول النفس مع التمسك بالأمل والثبات على الهدف، فقد أمضى رسول الله عليه السلام ثلاثة عشر عاما في مكة قبل الهجرة لم يؤمن به سوى بضعة وثمانين نفرا، هم النخبة التي حملت مسؤولية العمل بحيث لم تمضي عشر سنوات على الهجرة إلا وقد كان التغيير قد شمل جزيرة العرب، نتيجة حتمية للصبر والعمل المخلص الجاد.كثيرة هي دروس الهجرة النبوية التي تقودنا إلى التحديث كممر للتغيير.