أستأذن القارئ الكريم، بتخصيص “المقال الأخير” لي في صحيفة الغد للكتابة لها، وعنها، في سياق مهنة الصحافة وليس بعيدا عن السياسة، فأنا مدين لـ”الغد” بالشكر والتقدير والاحترام: للناشر ورئيس مجلس الأدارة، الاستاذ محمد عليان، ورئيس التحرير، الصديق مكرم الطراونة، والزملاء الكتاب والصحفيين والإداريين، استضافتني”الغد” لمدة عام كامل، وغمرني أهل الدار بلطفهم وكرمهم، ثم تحملوا، بمهنية ومسؤولية كاملة، “كلفة” مقالاتي وارتداداتها، ودافعوا عنها حين ضاقت صدور البعض منها.
قائمة الذين يستحقون الشكر طويلة: القراء الأعزاء الذين طوّقوا عنقي بكرم المتابعة والثقة، وبالانتقاد حين يزلّ قلمي عن طريق الصواب، المسؤولون الذين أدرجوا مقالاتي، بما فيها أحيانا من قسوة، على قائمة الفهم، لما فيه الصالح العام، الآخرون الذين أزعجهم صوتي، واستفزتهم- مرارا- صراحتي، فأضافوا إليّ مزيدا من الحكمة والصبر، ولم يزدني غضبهم أو عتبهم، إلاّ إصرارا على الالتزام بالمهنية، وإيمانا برسالة الكاتب، كنائب للضمير العام، وناطقا باسمه.تجربة عام واحد، من بين نحو40 عاما في الصحافة، كانت مختلفة، تعلمت منها أن أمانة الحرف، مهما تغيرت الأمكنة والمناخات، تبقى امانة صعبة، قد تأبى النفس أن تحملها، أو، ربما، تحاول الهروب منها، لكن إن فعلت ذلك، فقد ظلمت وأظلمت، ولا حظّ لها، عندئذ، مهما كانت الضغوطات، أوالاغراءات، بادعاء القيام بالتكليف الصحفي، اوالاستمرار فيه.تعلمت، أيضا، أن رأسمال الكاتب الصحفي قرّاؤه وسمعته، و”الدينامو” الذي يحركه هو ضميره، ودليله إلى الحقيقة البحث والسؤال، وليس التنجيم، أما رضا الناس فغاية لا تدرك، ومزاجهم لا يقاس دائما عليه، وظيفة الكاتب، هنا، أن يقود لا أن يقاد، وأن يكون الدليل لا التابع، ومتى كان الدفاع واجبا عن الدولة والمجتمع، بما يمثلانه من قيم ومصالح، فلا معنى للحياد، الحياد مطلوب بين متخاصمين، أما الانحياز فواجب، حين يكون لا بد من الاختيار بين حق وباطل، أو خطأ وصواب.تعلمت، في مدرسة “الغد” تحديدا، أن الصحافة اليومية لم تمت، وأنها قادرة على فرض وجودها وحضورها، وأن لدينا صحفيين أكفياء، يستحقون الإعجاب والدعم، ميزة الصحافة الجديرة بالبقاء أن تكون مستقلة وحرة، وأن يشعر العاملون فيها بالاستقرار والأمان الوظيفي، وتكون الأبواب أمامهم مفتوحة للإبداع بلا قيود، أما الدولة فيجب أن تستثمر في الصحافة الورقية، وتعيد الاعتبار اليها (الصحافة صحفيون ينتشرون في الفضاء العام، وليس مجرد ورق وحبر ومطابع)، لأنها بدونها ستكون بلا لسان، وبلا ذاكرة، ولا شهود أيضا.على ذكر الدولة، كثيرون ممن يجلسون على كراسي المسؤولية، لم يعجبهم ما كتبته عن قضايا المعلمين، والموقوفين السياسيين، وملفات أخرى مرتبطة بأداء إدارات الدولة، وأجهزتها، هذه مناسبه لتذكيرهم أن الأردن لنا جميعا، نحرص عليه كما يحرصون، وربما أكثر، ندافع عن الدولة وقيمها ومصالحها، بلا وصايات، ولا أوامر اوتوجيهات، لا عن الأدوات التي تعمل بخدمتها، الأردنيون يستحقون أفضل مما قدم لهم، وانتقادهم لأي خطأ، جزء من واجبهم، ومن واجبنا، كصحافة، أيضا.أودّع “الغد”، وفي قلبي خليط من الرضا والحزن، فقد مدت إليّ يدها بالترحاب، وكتبت في “المستطيل” على صفحتها الأخيرة، أغلى وأجمل ما قدرني الله عليه، وهآنذا أرد عليها التحية بمثلها، وأعترف بغصة بالقلب على فراق قرائها، والأحبة فيها، سأبقى أعتز بهذه المؤسسة الوطنية،وأسأل الله أن يكون غدنا أجمل، وبلدنا أقوى وأمكن، وقراؤنا الأعزاء بخير وسلام.إلى اللقاء.
حسين الرواشدة يكتب المقال الاخير في الغد
مدار الساعة ـ