خلال النصف الثاني من القرن الماضي، هبت على العالم العربي رياح غربية وشرقية، هادئة حيناً وعاتية أحياناً، إن لم تقتلـع ما كان ثقافتنا في الخمسينات من جذورها، فقد استطاعت تحويل وجهتها وإعادة تشكيلها بالتدريج دون أن نشعر، فالغزو الثقافي الذي كان البعض يحذر منه وقع، وحقق انتصاراً كاسحاً، ليس في ميادين القتال الساخنة فقط، بل في مجالات الأفكار والثقافة أيضاً.
المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري كان قد وضع إصبعه على الجرح، ووصف مراحل تطور المشهد الثقافي العربي منذ الخمسينات، وتأثير الاستعمار ورد الفعل الوطني إزاء الثقافة الأجنبية، والحلول المطروحة للتأصيل الثقافي لقيم الحداثة.
ليس في نيتي تلخيص المحاضرة القيمة التي ألقاها الجابري في ندوة لصحيفة (الاتحاد) الإماراتية، والتي نشرتها مجلة (المستقبل العربي) التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، ولكني سأقف قليلاً عند أحد مظاهر التحول الثقافي في مجال المصطلحات المتداولة ذات الدلالة بين عقد الخمسينات والعقد الحالي.
الإمبريالية في الخمسينات أصبحت النظام العالمي الجديد اليوم، وشعار الاشتراكية حل محله شعار الليبرالية، والاستقلال الاقتصادي استبدل بالاندماج في السوق العالمية، أما الاستقلال الوطني فقد حلت محله العولمة والاعتماد المتبادل، والقومية العربية أخلت مكانها للأقليات ومكونات المجتمع، والتأميـم صار تخاصية، ورأسمالية الدولة صارت الانفتاح، وحرق المراحل صار نهاية التاريخ، أما صراع الطبقات فقد حل محلة صراع الحضارات، والجماهير الكادحة صار اسمها المجتمع المدني، أما التنمية المستقلة فقد تحولت بقدرة قادر إلى التنمية البشرية المستدامة، والمنادون سابقاً بالقضاء على الاستغلال اكتفوا اليوم بالتخفيف من حدة الفقر، وحل الإرهاب الدولي محل المقاومة الوطنية، ومن كان يوصف بالإصلاحي أصبح المعتدل، أما الثوري فهو المتطرف، وهكذا.
هذه بعض التحولات المشار إليها كنماذج للتحول الثقافي، ويستطيع من يشاء أن يضيف إليها الكثيـر، مما أحدث تغييراً في عقولنا وقلوبنا، وغير توجهاتنا، وأعاد تشكيل ثقافتنا كمهزومين، لتنسجم مع ثقافة المنتصرين وتلتحق بها.
ليس كل مستورد جميلاً ويتوجب اقتباسه، أو قبيحاً يتوجب اجتنابه، فمن حقنا أن نكون ونظل أبناء العصر، نتعلم ونستفيد من تجارب الآخرين، ونسحب على الثقافة العالمية، شريطة أن تكون لدينا تجاربنا الخاصة وإسهامنا في ثقافة العالم نأخذ ونعطي.
الرأي