يدرك "مطبخ القرار" في عمّان جيداً أن توقيت مقالاتٍ نشرت أخيراً، تحدّثت عن العودة إلى الحل الأردني والفيدرالية مع الضفة الغربية، ليس بريئاً ولا منبتّاً عن سياق دولي وإقليمي، يسعى للضغط على الأردن ومحاصرته، لوضع هذا الخيار على الطاولة من جديد.
كنّا قد أشرنا إلى هذا السياق الجديد الخطير في تقرير صادر عن معهد السياسة والمجتمع (لخصته في مقال في "العربي الجديد" بعنوان "الانقلاب الإسرائيلي على الأردن" في 10/5/2022)، ويمكن التأريخ للتصاعد المستمر والمنتظم في هذا السياق منذ إدارة الرئيس ترامب، وطرح "صفقة القرن" وموضوع السفارة الأميركية في القدس، ثم الاتفاقيات الإبراهيمية، وحالياً العزف على لحن انتهاء الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على الاستمرار، والبحث عن بديل أكثر صلابة وقوة، وهو الأردني، ما يؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد، وعلى حساب الأردنيين والفلسطينيين.الخيار الأردني طُرح، وفي التوقيت نفسه تقريباً، من جهتين أخيراً: الأول كاتب سعودي من أصول فلسطينية، علي الشهابي، وحمل عنوان "مملكة فلسطين الهاشمية". ولعل ما لفت الانتباه، نشره على موقع "العربية نت"، ما أعطى انطباعاً لدى الرأي العام الأردني أنه لا يمثل شخصاً، بقدر ما يعكس سياسات إقليمية ترتبط بأجندة "الاتفاقيات الإبراهيمية"، وتستبطن الانتهاء من مركزية القضية الفلسطينية، وأسهل خيار يمكن أن يريح الإسرائيليين والأميركيين هو الأردني، وبصورة خاصة إنهاء السلطة الفلسطينية لمصلحة الحكم الهاشمي، وإنهاء ما سمّي حق العودة للاجئين الفلسطينيين بصورة نهائية وقاطعة.أما المقال الثاني، فطرحه وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، شلومو بن عامي، بعنوان "مستقبل أردني للضفة الغربية"، ونشره في "وول ستريت جورنال"، وانتهى إلى ضرورة عودة الأردن إلى الضفة الغربية بوصفه الحل الوحيد الممكن اليوم للقضية الفلسطينية، بعد إعلان "وفاة حل الدولتين"، و"عدم واقعية" طرح الفدرالية الإسرائيلية - الفلسطينية، فلا يبقى غير عودة الضفة الغربية إلى الأردن، أو العودة إلى ما كانت عليه الحال قبل 1967.بالعودة إلى المقالات والتصريحات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، من الواضح أنّنا أمام خطاب إسرائيلي يتمركز حالياً في وضع مسار مختلف لمستقبل القضية؛ والأخطر أنّه على ما يبدو الحل الوحيد في الأفق لدى الإسرائيليين، للخروج من أزمتهم، أو تصديرها إلى الأردن، سواء على الصعيد الأمني أو الديموغرافي!وبالرغم من أنّ إدارة الرئيس الاميركي الحالي، جوزيف بايدن، أوقفت التسارع السابق من ترامب وفريقه وصهره جاريد كوشنير تجاه تصفية القضية وموضوع القدس واللاجئين وما يسمّى السلام الإقليمي، إلّا أن لا بايدن ولا فريقه قدّموا خيارات أو تصورات بديلة، بل اكتفوا بتجميد مشروع ترامب.ما هو أخطر من ذلك كلّه، أن الحرب الأوكرانية - الروسية ولّدت تداعياتٍ سلبية أخرى على القضية الفلسطينية؛ تتمثّل أولاً بتراجع جديد في مركزيتها وأهميتها، وثانياً بمحاولة إدارة بايدن استرضاء أطراف إقليمية، والتخلي عن مواقف سابقة، وهي أمورٌ انعكست على الترتيبات الراهنة للزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي إلى المنطقة، لكن بتركيز أكثر على المصالح الاقتصادية والأمنية الأميركية، مع دعم أكبر للتحالف الإقليمي العربي - الإسرائيلي، الذي شعر بالتضرّر من مغادرة ترامب البيت الأبيض.ضمن هذه السياقات والأنساق، يمكن أن نفهم تطور الحديث عن الخيار الأردني، وهو أمر لا ينبغي أن يقف المسؤولون الأردنيون عند حدود تسخيفه وتجاهله؛ والتمسّك بخطابٍ تقليديٍّ يصرّ على حل الدولتين الذي لم يبق إلا الأردنيون يتحدّثون عنه!إذا أراد الأردن حقاً مواجهة هذه الخطابات التي بدأت تشقّ مساراتٍ، وستصبح سياساتٍ معلنة قريباً، بما يهدّد أمنه الوطني ومصالحه الاستراتيجية؛ فإنّ على صانع القرار الأردني وضع خيارات وأفكار جديدة مختلفة على الطاولة؛ إما بطرح حل الدولة الواحدة، مثلاً، التي تشمل كل فلسطين التاريخية، والضغط على النظام الإسرائيلي بدلاً من الضغط على الأردن، أو تشجيع تغيير الوقائع على الأرض فلسطينياً، سواء في القدس أو الضفة الغربية أو قطاع غزة.
إذا استمر الأردن بالرفض الديبلوماسي فقط، ستجتاحه السياقات الجديدة، وليس بعيداً تعزيز سيناريو "خنق الأردن" وإثارة المشكلات، وربما العودة إلى سيناريو اللعب في الساحة الداخلية، واستثمار الأزمات السياسية والاقتصادية الكبيرة.