لكل قاعدة شواذ.. وعادة يظهر شاذ القاعدة اذا ما وجد البيئة الحاضنة والمساندة له.. والتي تساعده كي ينمو ويترعرع.. وحتى انه في بعض الاحيان يطغى على اصل القاعدة..
إبتدأت بهذه الفقرة حتى لا يظن ظان انني اتحدث بعمومية او عن شخص بعينه.. وانما محور الحديث هو مَن شَذ على القاعدة..
فعلا سبيل المثال لا الحصر..
تجدك مدعواً لحضور ندوة او جلسة نقاشية او حتى سهرة محصورة الحضور عند احد المعارف..
فمن المؤكد ان هناك شخصية فكرية في مجال من المجالات ستكون هي محور ذلك اللقاء..
وبعد تقديم تلك الشخصية من قِبل المعزب او القائمين على تلك الجلسة..
يستهل حديثه بانه لا يبدأ نهاره الا اذا احتسى فنجانا من القهوة على انغام الموسيقى الهادئة في احدى ردهات الفنادق ذات الخمسة نجوم.. تيمنا بالمفكرين العظماء الذين اشتهروا بشرب القهوة صباحا على انغام فيروز في المقاهي التي وُسِمَت بوسم المثقفين ونفتقدها في ايامنا هذه.. تجد نفسك امام قامة ثقافية عميقة الفكر والتحليل..
فتفتح أذنيك على مصراعيها.. وتصبح حدقة عينيك كحدقة القط في الظلام.. وتحاول قدر المستطاع ان تضبط اي حركة لاي جزء منك لئلا تفوتك همسة او إيماءة من تلك الشخصية..
وعندما يبدأ الغوص والاسهاب في القشور.. تتمنى ان لو اصيب بنوبة اغماء ولم يكمل.. حتى تبقى تلك الصورة الناصعة مطبوعة في مخيلتك..
وحينها لا بد ان يمر امامك شريط يذكرك بجاهة خِطبة او عطوة يتصدرها احد شيوخ العبي الصينية.. والذي شيَّخه ماله.. ونزل على هذا الامر بالبراشوت..
فلن يخفى على صاحب النظرة المتبصرة سذاجة هذا المستشيخ حين يتحدث في مجلس يغلب على من هم فيه الأصالة والفهم العميق لمجريات الامور والعادات والتقاليد.. ويبدأ بوضع الحشو من الكلام لايصال حديثه الذي هو بالاساس حديث مقلد "صيني" مثل عباءته.. فهو الحافظ وليس الفاهم.. والذي يقيس كل شيء بلغة المال.. وان له ثمن.. ولا يعلم ان الحياة كرامات ومواقف رجولة.. وان الشيخ الحقيقي إن وجب الدفع يدفع من جيبه قبل الاخرين.. وان تعدى عليه احد الجُهال.. تَرَفَع ونأى بنفسه عنه..
وانا اكتب هذه الخاطرة تذكرت قصة ابي حنيفة النعمان.. واردت ان اعيدها عليكم.. علَّني اخرج بها من هذا التشتت الذي اعتراني.. وتصل الصورة واضحة..
حينما كان العالم الجليل أبو حنيفة يجلس مع تلاميذه في حلقة الدرس.. وكان قد استأذنهم بان يمد رجليه بسبب آلام في الركب يلازمه..
وفي ذات يوم.. وبينما هو جالس مع تلاميذه.. جاء إلى مجلسه رجل عليه أمارات الحشمة والوقار.. فمِن ملابسه البيضاء النظيفة.. واللحية الكثيفة.. لا تجد بدا من تقديره واحترامه.. فجلس بين التلاميذ بكل حشمة وادب.. فما كان من أبي حنيفة إلّا أن سحب رجليه إلى الخلف.. ثم طواهما.. وتربّع احتراما لذلك الشيخ الوقور..
وتابع درسه الذي كان حول موضوع دخول وقت صلاة الفجر.. وكان التلاميذ منهمكون بكتابة ما يقوله الإمام.. وكان الشيخ الوقور.. ضيف الدرس.. يراقبهم بكل جد..
وفي تلكم الاثناء.. قال الضيف لأبي حنيفة من دون اي استئذان.. (( يا أبا حنيفة.. إني سائلك فأجبني )).. فشعر أبو حنيفة أنه في حضرة عالم ربّاني.. يريد ان يوصل رسالة للمسلمين.. فرد عليه الإمام.. تفضل واسأل..
فقال الشيخ (( أجبني إن كنت عالماً يُتَّكل عليه في الفتوى.. متى يفطر الصائم؟! ))..
هنا ظنّ أبو حنيفة أن السؤال فيه مكيدة معينة.. أو نكتة عميقة لا يدركها علمه.. فأجابه بكل هدوء وحذر.. (( يفطر إذا غربت الشمس ))..
فقال الشيخ ذو اللحية المهيبة وتعلوا وجهه مظاهر الجدِّ والحزم.. وكأنه امسك على ابي حنيفة خطأ.. (( وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يفطر الصائم؟! ))..
صمت ابو حنيفة لوهلة بعد أن تكشّف اليه امر ذلك الرجل.. وظهر ما كان يستر خلف تلك الهيئة.. وقال أبو حنيفة قولته المشهورة التي اصبحت مثلا يستشهد به (( آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه ))..
في احيان كثيرة.. وفي جلسات عديدة.. وفي مواقف مختلفة.. يجد كلُ مَن يحترم نفسه.. ويعرف قدرها.. انه مرغم على ان يمد رجليه الاثنتين.. ليعلم امثال هؤلاء انهم مكشوفون.. حتى وان احتسوا القهوة على انغام مقطوعات بيتهوفن.. او لبسوا عباءة من حرير..