بالرغم من أن جزءاً كبيراً من تراث أسرتي المهني يرتبط بجريدة الدستور، فقد كان والدي شريكا رئيسيا بملكيتها، ورفض بيع حصته فيها عندما طلبت إحدى الحكومات من مالكي الصحف بيع حصصهم فيها، فاستجاب الجميع إلا أبي، الذي شغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة الشركة الأردنية للصحافة «الدستور» لسنوات طويلة، وظل مواظباً على نشر مقالاته بها، ثم صار شقيقي محمد رئيسا لتحريرها لمدة طويلة سعى خلالها لجعلها صحيفة وطن.
بالرغم من ذلك كله فقد ارتبطت أنا عاطفياً وعقلياً بجريدة الرأي، لأسباب كثيرة لعل من بينها أن أولى خطواتي في احتراف المهنة ارتبطت بمبنى المؤسسة الصحفية الأردنية «الرأي»، فبعد أشهر قليلة من صدور «الرأي» أصدر والدي جريدة اللواء، التي ولدت على مطابع الرأي وقد كانت المطابع الأحدث في الأردن، فالمؤسسة الصحفية الأردنية أول من أدخل طباعة الاوفست إلى الصحافة الأردنية، فتعلمت أنا في مطبعة الرأي وفي غرفة الوكالات فيها الكثير من أسرار المهنة وأصولها، كما تعرفت في مكاتبها على الكثير من زملاء المهنة الذين أعتز بصداقتهم حت? الآن، وكنت ومازلت اراقب نشوء اجيال متتابعة من الصحفيين، وفي هذا المجال تشكل الرأي مؤشرا يعتد به.سبب آخر قوي يشدني إلى «الرأي»، هو طبيعة العلاقات الدافئة التي تربط العاملين فيها بعضهم ببعض وبمؤسستهم، علما بأن الرأي كانت تضم عمالقة المهنة والكلمة، لذلك كانت تقدم وجبة سياسية وفكرية وثقافية ورياضية دسمة يوميا، يغذي ذلك كله الاعتزاز بـ"الرأي» ودورها في حياة الوطن.دور «الرأي» في حياة الوطن ومسيرته هو أقوى عوامل الارتباط العاطفي بـ"الرأي»، ففي ورق «الرأي» وحبرها تشم رائحة الأردن غير ملوثة وتسمع صوته صافيا، فقد ولدت «الرأي» لتكون صوت الوطن، ومنبره للإعلان عن مواقفه وشرحها والدفاع عنها، في مرحلة كان الوطن يواجه موجات متلاحقة من التشكيك والتجني وتزوير الحقائق، وهي الموجات التي مازال الكثير منها مستمرا حتى يوم الناس هذا، فكانت الرأي مدماكا رئيسا في جدار الصد عن الوطن، فلم يتلون انتماء الرأي للأردن يوما، ولم تخذل الرأي يوما قيادة وطنها، كما فعل غيرها، وعلى مدار نصف قرن ون?ف ظلت الرأي السارية التي يعلو بها صوت الأردن وفكره، فقد ظلت «الرأي» صحيفة دولة لا صحيفة حكومة عابرة، وعندما صارت الحكومات العابرة تتدخل في شؤون «الرأي» اليومية، أصيبت «الرأي» بوهن يجب أن نسعى جميعاً لكي يصبح وهنا عارضا، وأول ذلك أن نتذكر أنه لا يجوز التعامل مع مكونات الدولة وأدواتها وجيوشها بمنطق الربح والخسارة، فالتعامل مع أدوات الدولة يجب أن يتم بمنطق الدور الذي تلعبه هذه الأدوات، والضرورة التي تمثلها، والكل يشهد لـ"الرأي» ودورها في تاريخ بلدنا، وبدورها في الدفاع عن مواقفه، فالقتال بالكلمة أصعب أنواع الق?ال ومعارك الكلمة والموقف أطول بكثير من معارك المدافع، وقد كانت «الرأي» وما زالت في كل معارك الكلمة والموقف سارية ترفع علم الأردن وصوته، ولا يجوز أن تكسر هذه السارية حتى يظل صوت الأردن مسموعاً مدوياً.