سأسرح اليوم مع الدجاج الذي سبب أزمة ممتدة بين الجمهور، فمنذ بداية وعيّنا ونحن نرى محال بيع الدجاج الحيّ قبل المسالخ، ورغم استهلاكه القديم خصوصا في المدن، فإن القرى كانت تعج جنباتها بالدجاج البلدي الذي قلما يستخدم للأكل على موائد الشعب القديم، بل كان للدجاجة قيمة عالية لأنها تبيض بيضا غير مهرمن، وفي نظرة لسوق الدجاج منذ سنوات خلت كانت سوريا هي المصدر الأكبر لتوريد الصيصان الصغيرة من أصناف الأمهات البيّاضة للأردن، لذلك انتشرت مزارع فردية للدجاج اللاحم والبياض، حتى بدأت بعض الشركات الكبرى تسيطر على السوق، تقابلها شركات مستوردة للدجاج المجمد، فأصبح الدجاج علامة فارقة في غذاء الأردنيين.
يتحدث الجمهور اليوم عن حملة مقاطعة الدجاج، ولكن ما ذنب الدجاجة ليسخط المستهلكون على هذه المسكينة، فصُبوا جام غضبهم على الدجاجة، أولم يروا أنها طعام غالبية الشعب، بل إن منهم من لا يجد ثمن الواحدة منها أحيانا، ولكن حيتان المزارع الكبرى هم من يتحكمون بالأسعار، فرغم الأرباح الجيدة خلال سنوات طويلة فإنهم لم يصبروا على أزمة الأعلاف في ظل ضيق ذات اليدّ لدى المستهلك، ومنذ رفع الحكومات السابقة يدها عن التدخل لمراقبة الأسواق بات الكثير من السلع أغلى بكثير من سعر الدجاج، ولكن المؤسف أن نرى البذخ في استهلاك الأطعمة غير الضرورية لا تزال متداولة دون تقدير.ليس المستهلك الأردني وحده الذي قاطع الدجاج المسكين، ففي السعودية قبل أيام اعلن العديد منهم مقاطعة الدجاج أيضا، ومشتقات الألبان وعدد من السلع، وفي دول أخرى قاموا بذات الأمر، ولكن المشهد اليوم بات أكثر قتامّة، لا من ناحية غلاء الأسعار بل الخشية من انقطاع سلاسل التوريد لكثير من السلع التي كانت تورّد للسوق المحلي، وهذا يتطلب العودة الى مراقبة رسمية على الواردات التي يحتكرها العديد من التجار الكبار، فالمواد الأساسية يجب حمايتها كالأرز والسكر والطحين والزيوت النباتية التي قفزت أسعارها حد الخيال، ورغم تخلي الكثير من المواطنين عن شراء مستلزماتهم المطبخية فإن قدرتهم الشرائية لا تزال تتهالك.ليس بالدجاج وحده يحيا الإنسان، فالوحش القادم سيرفع الغطاء الساتر عن عشرات الآلاف من الأسر التي كانت تكابد في عيشها، وهذا أحد الأخطاء القاتلة في خارطة التنمية البشرية، تقابلها فواتير مرهقة لا طاقة لهم بها، فيما القيم الشرائية للعملات تتآكل في أسواق الاستهلاك التجاري، ورغم معرفة الجميع بهذا الأمر فإننا لا نزال ندور حول الساقية التي جفت مياهها، وكل الإجراءات الحكومية للتقليل من وطئة الأمر فإن ما يسمى بالسوق الحرّ بات واحدا من أسباب انتشار نسب الفقر العام في ظل بطالة لامست المؤشر الأحمر، وما زلنا ننفق على مؤسسات وفرعيات لا حاجة لنا بها دونما أي فائدة تذكر، ويعاد تدوير الأشخاص من ذوي الألقاب من مكان الى مكان أفضل أو الجمع بين وظائف هنا وهناك.إذا لم نتدارك الأمر بسرعة فلن يبقى هناك دجاج ولا مزارع ولا عائلات مستورة، بل سنكون جميعا عوائل مفضوحة تواجه شبح الفقر الموجع تحت رماد ساخن، فالقضية ليست قضية أسعار الدجاج أو اللحوم الحمراء الأغلى بثلاث مرات، بل بكل مستلزمات السوق الذي قفز فجأة على حساب الصراع بين روسيا واوكرانيا، فهل يصدق أحد أن ثلاثة أشهر من الحرب بين بلدين أطاحت بالأسواق العالمية؟ فكيف لو وقعت الحرب التي تحرض عليها إسرائيل في الشرق الأوسط أو على حدودنا، هل عندنا استراتيجية لحماية إمداداتنا الغذائية.. أخرجوا الدجّاج من القنّ فالمسألة أكبر كثيراً من دجاجة.