مدار الساعة - لا تزال كثير من القوميات المسلمة ترزح تحت حكم الصين (قومية الهان) كالإيغور والقبچاق (من التتر المسلمين)، وجاء منهم أغلب المماليك مثال بيبرس وقلاوون وأيبك وأقطاي، وبعض الشعوب التركية الأخرى كالقازاق والقرغيز، خاصة في تركستان الشرقية (مقاطعة كسينكيانج). والقازاق/الكازاخ بدو رحّل، يسعون دائماً إثر الماء والزرع والكلأ، وهو ما انعكس على تاريخهم ولغتهم، فانتقلت عاصمتهم أربعاً من الڤولجا إلى نهر سيحون ثم ألماتا ثم أستانا! ومثلها انتقلت لغتهم من حرف عربي إلى لاتيني فكيريلي، ثم اللاتيني خلال مئة عام، ليضيع كل مرة تراث الأجداد وثمار الأدب وزروع الفكر!
وقبل عدة سنوات أعدم الصينيون أحد قادة الحركة المسلمة هناك، الشيخ محمود شوكت، فمن له حظ من الإيغور كانت من وقعت أراضيهم داخل حدود كازاخستان الشرقية، حيث إن كل هذه القرى الحدودية على الجانب الكازاخي هي لمسلمي الإيغور، وجلهم من الرعاة أو ذوي التجارات الصغيرة المعتمدة على طريق قوافل التجارة من وإلى الصين المجاورة، وهو جزء من طريق الحرير الشهير الذي تمتد عليه استراحات، حيث يمكنك شراء مؤونة الطريق وتموين سيارتك أو دابتك وقضاء حاجتك.وأما عن قضاء الحاجة فأنصح بشدة بأن تكون أنجزتها بالفندق براحتك قبل الخروج إلى الطريق الطويل، لماذا؟ لأن أماكن قضاء الحاجة سواء في كازاخستان أو غيرها (روسيا خارج سان بطرسبورغ وموسكو وقازان) بنسبة 99,9% ستكون مجرد أرضية خشبية ذات ثقب لتصرف به حاجتك، نعم فعليك أن تعلم ذلك، لذا اشرب على الطريق كما يحلو لك ولا تفرط في طعام إلا ما يقيم أودك حتى تصل للحضر؛ المدينة أو النزل الذي تقيم به.وجبات شهية.. وعجيبةومع ذلك ضروري ألا تفوتك فرصة استراحات الطريق -سيدلك السائق عليها بكل سرور- لتجربة الطبق الكازاخي الشهير "البيشبيرمك" (أكلة الخمسة أصابع) من بيش التركية بمعنى خمسة، وبرمك إصبع، لأنها تؤكل بأصابعك الخمسة، أو إن شئت فلتطلب لوشكا (ملعقة)، وتعد من عجين يشبه المكرونة الطازجة على هيئة صفحات كاللازانيا، مطهوّة بمرق الضأن، ومعها الكثير من لحم الخراف المسلوق في القدر، وهو لذيذ جداً ويأتيك مع صحن به المرق، ويعتبر أفضل ما تجد في مطابخ الكازاخ والقيرغيز والتتر التقليدية.وإن أردت المغامرة المحسوبة فمن الممكن أن تطلب بجانبه القازي والكازي هو نوع من نقانق الحصان محشوة بلحم ضلوعه المتبلة بالفلفل والثوم، حيث تعلق ضلوع الحصان بعد شطفها جيداً 6 ساعات ثم تملح وتنشر ساعتين قبل أن تُتبل بالفلفل والثوم وتحشى بأمعاء الحصان الدقيقة وتدخن عند درجة 50-60 مئوية، لكنها تقدم كشرائح باردة سميكة مع الكزبرة الخضراء والشبت والبصل.أما إن كنت من محبي المغامرات غير المحسوبة، أو ممن يحبون شغل المسمط والباتشه من المطبخ العراقي والكردي والتركي، وممن يكرمون الذبيحة ويهينون أنفسهم (على سبيل المزاح) فلتجرب القرطة، لكن هذه المرة لا نتحدث عن لحم الرأس، بل لحم عضلة المستقيم لدى الحصان! نعم هو الشرج بذاته، وأكاد أقسم لك أنه لو لم يُشرح لك أي جزء من الحصان هذا، ستأكله بلا تردد، لكن حين تعلم بموقعه من الحيوان فقد تفكر وتفكر دون أن تقربه.قد يختلط عليك الأمر أيها القرطة وأيها القازي، لكن البيشبرمك ظاهر بسلطانية الشوربة بجانبه والعجين بأسفله وقطع البصل مختلطة بلحم الضأن، ولا تنسَ أن تتبعه أو تتبعها جميعها بالقُمّز (لبن الخيل المحمض) أو الشوباط (لبن النوق) .مناضدهم خشبية كبيرة عالية الساقين كالسُّرُر (الأسِرّة) القديمة، تخلع نعليك أولاً ثم تجلس فوقها لا إليها، وفوقها خوان مغطى بمفرش من نسيج سميك ذي زخارف كازاخية تقليدية، تلك التي يطلق عليها كوشكار مويز (قرنا كبش محورة تشبه الأرابيسك) كتلك التي تزين حافة علمهم رأسيا.ويخفي هذا المفرش سحارة بها شيء من فحم مشتعل يبعث الدفء لساقيك وقدميك في أيام البرد، أما إن كنا وقت النوروز (الربيع)، وكان الجو جيداً، فليس من الضروري إشعال المدفأة، لكن مع جلستك إلى هذا الخوان والبيشبرمك الساخن أمامك سيُبعث فيك شعور وكأنك ألداركوسي في زمانه! وألداركوسي هذا هو جحا الثقافة الكازاخية، وبطل الحكايات الشعبية لهذه المنطقة، والتي كان يخدع فيها الخانات (الأمراء) الشريرين لصالح الطيبين من العوام والبسطاء، فهي أشبه بحواديت علي الزيبق في السيرة الشعبية، بل إنه حتى خدع إبليس ذاته بألاعيبه وفق الأسطورة "في بستان البدائع".الأسطورة الشعبية ألداركوسي على عملة طبعتها كازاخستانوبعدما ابتعنا ما شاء الله من لبن النوق (الشوباط)، والخيول (القُمُّز) من العم عبد المهيمن، طازجين رأساً من إسطبل خيوله وراء هذه اليورتا (الخيمة التقليدية لشعوب ما وراء النهر)، تبادلنا التحية وكلمة من أجمل الكلمات في لغتهم تطرب الأذن وتعلق في القلب هي "رحمت"، بمعنى شكراً، فاقترن الشكر لديهم بالرحمة وابتسامتهم الفطرية!فعبارات التحية والترحيب عربية في مجملها، أما الأعداد فتكاد تكون تركية، أو للدقة لهجة منها وتكتب بالأحرف الكيريلية، أشبه بالروسية والأوكرانية، لكن تزيد بها بعض الأحرف المميزة، لتعبر عن أصوات عربية مثل ع، غ، ق. أو تركية مثل: Ö; Ü:(Әә, Ғғ, Ққ, Ңң, Өө, Ұұ, Үү, Һһ, İi. (lat. Áá, Ǵǵ, Qq, Ńń, Óó, Uu, Úú, Hh, İi)أما الأعداد فتركية صرفة مع اختلافات بسيطة:0 нөль; 1 бір, 2 екі, 3 үш, 4 төрт, 5 бес; 6 алты, 7 жеті, 8 сегіз, 9 тоғыз, 10 онten11 он бір, 12 он екі, 13 он үш, 14 он төрт, 15 он бес, 16 он алты, 17 он жеті, 18 он сегіз, 19 он тоғыз, 20 жиырма, 21 жиырма бір, 30 отыз, 40 қырық, 50 елу, 60 алпыс, 70 жетпіс, 80 сексен, 90 тоқсан, 100 жүз, 1000 мың, 1000000 бір миллион.وهنا لمن اهتم نصٌ بين الأبجديات الثلاث:الأبجدية العربية حتى بداية الثلاثينات، وتزيد فيها أحرف مثل (وُ = u/يو, ۋ = v/ڤ, ڭ = ŋ/نج , گ = Г/الجيم القاهرية , پ = پ/p, والياء المهملة بلا تنقيط = ı/حرف الآي التركي المهمل (غير المنقوط) كقولك في التركية yıldan yıla أي من عام لآخر، فكلمة عام yıl تكتب بهذا الحرف غير المنقوط، ولا تبدأ به أية كلمة في الغالب، على حد علمي، على عكس حرف الآي المنقوطة İ الذي نعرفه من اسم مدينة إسطنبول مثلاً İstanbul.أما الهاء المربوطة فتأتي بنفس الرسم في نهاية الكلمة أو أوسطها وصوتها كالياء (الروسية والألمانية) "بارلىق ادامدار تۋمىسىنان ازات جانە قادىر-قاسيەتى مەن كۇقىقتارى تەڭ بولىپ دۇنيەگە كەلەدى. ادامدارعا اقىل-پاراسات، ار-وجدان بەرىلگەن، سوندىقتان ولار ٴبىر-بىرىمەن تۋىستىق، باۋىرمالدىق قارىم-قاتىناس جاساۋلارى ٴتيىس"وتأتي ترجمته على النحو التالي:"كل البشر ولدوا أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، هم ملزمون بالعقل والضمير، ويجب أن يتعاملوا مع بعضهم بروح من الأُخوة".ونفس النص مكتوب بالكازاخية الكيريلية:"Барлық адамдар тумысынан азат және қадір-қасиеті мен құқықтары тең болып дүниеге келеді. Адамдарға ақыл-парасат, ар-ождан берілген, сондықтан олар бір-бірімен туыстық, бауырмалдық қарым-қатынас жасаулары тиіс. "وأحد أشكال النص باللاتينية -غير المتفق عليها- قد يكون:Barlyq adamdar týmysynan azat jáne qadir-qasıeti men quqyqtary teń bolyp dúnıege keledi. Adamdarǵa aqyl-parasat, ar-ojdan berilgen, sondyqtan olar bir-birimen týystyq, baýyrmaldyq qarym-qatynas jasaýlary tıis.بين العربية والتغريبولَإنْ سألت خمسة من القازاق (الكازاخ) في أمر تغيير الكتابة لوجدتهم على ستة آراء!فريق مع التغريب واللحاق بذيل الغرب ظناً منه أنه قد يساعد في التنمية (تماماً كدعوات الكماليين في تركيا قبل ثمانين عاماً، ولكنها ظلت أكثر من 80 سنة دولة من العالم الثالث، تسعى وراء الالتحاق بالركب الأوروبي (السوق الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي) حتى تغيرت أحوالهم في السنين الأخيرة القليلة، وقطعاً ليس بسبب الـHarf Devrimi (قانون استبدال الحرف العربي باللاتيني)!وفريق من الأذكياء والأكاديميين الذين يرون أن مثل هذا التغيير سيجعل هناك قطيعتين، الأولى بين الشعب كله وكل الكتب والصحف ومصادر ثقافته التي صدرت على مدار أكثر من 70 عاماً، وكل ما سطّره أدباؤه وعلماؤه ورجال الفكر، أي نفس مأساة الجمهورية التركية في نهاية العشرينيات ستتكرر، حيث كانت الأمية تكاد تكون صفراً في المجتمع العثماني لذهاب الجميع للكتاتيب والمدارس الدينية للمطالعة وحفظ القرآن من قبل المدارس الحديثة والجامعات، إلى أن قفزت الأمية لما يقارب 100% من المجتمع بين يوم وليلة، فانقطع الترك عن أرشيفهم وتاريخهم، وصاروا مع الوقت لا يستطيعون قراءة حرف منه!حيث صارت الوثائق والكتب والصحف القديمة طلاسم مشفرة بين أيديهم، وكذلك المصحف، كتابهم المقدس صاروا يقرأونه بشق الأنفس، اللهم إلا من درس في الليسيهات (المدارس) الدينية، والأئمة والخطباء فقط.وفريق على قدر من وعيٍ يرى أن الـ300 مليون دولار التي خصصها الرئيس السابق نزارباييف لهذا المشروع، حيث يريد تطبيقه على 2025، كانت أولى لكثير من المناطق التي تفتقر للبنية الأساسية وليس بها ماء أو غاز!وكثير من كبار السن الذين خبروا هذه التجربة والتحول الأخير من ستالين في الأربعينات يتذكرون آلام التجربة ومرارتها، وعدم الاستقرار الثقافي والنفسي، حيث إنهم قبلها كانوا بالكاد اتفقوا على الأحرف اللاتينية، والتي لم يكن آباؤهم وأجدادهم قد تمكنوا منها بعد، فكل الكتب الدينية والفكرية والأدب والعلوم والمصاحف كانت لا تزال مكتوبة بالحرف العربي؛ لذا كانت تُجمع منهم وتحرق ويعاقب مقتنوها!وآراء أخرى ترحب بما يتخذه الرئيس الأب، مهما كانت تبعاته غير المدروسة فيطبلون، وآخرون يرونها فرصة لحل مشاكل كازاخ الدياسبورا، حين يعودون فلا يضلون الطريق لضعفهم في قراءة الكتابة الحالية -ما أوهاها من حجة- وفريق يظن أن الأجيال القديمة سيسهل عليها تعلم اللغات الأوروبية بهذه النقلة! يالسذاجته فليُلقِ نظرة على الفرنسيين والإيطاليين والأتراك في إجادتهم للغات الأجنبية والإنجليزية مثلاً، رغم استخدامهم لنفس الحرف اللاتيني، بل لينظروا لتجربتهم السابقة، والتي لم تتوحد قواعد كتابتهم اللاتينية من ناحية الإملاء وشكل الحروف!يبدو أن طبيعة القازاق/الكازاخ لكونهم بدواً رحلاً في سعيهم الدائب وراء الماء والزرع والكلأ انعكست على تاريخهم ولغتهم، فانتقلت عاصمتهم أربع مرات من أورينبورج على ضفاف الڤولجا، إلى كيزيلوردا على نهر سيحون، ثم ألماتا -والتي تعني التفاحة- بالجنوب، ثم أستانا بالشمال!شومثلها انتقلت لغتهم من الحرف العربي للاتيني، ثم الكيريلي، ثم اللاتيني خلال مئة عام، ليضيع كل مرة تراث الأجداد وثمار الأدب وزروع الفكر!عربي بوست
كانت العربية لغتهم الأم وغيّروا عاصمتهم 4 مرات بحثاً عن الماء.. المسلمون الكازاخ الذين تحكمهم الصين
مدار الساعة ـ
حجم الخط