عقدة المنشار في أزمة العلاقة بين الإدارة العامة للدولة وبين المجتمع، وربما هي السبب لما نعانيه من ارتباك عام، وغياب للثقة، وتباطؤ في الإصلاح، تكمن بكلمتين: “من أنتم؟”.
العبارة لا تنطوي على مجرد سؤال لمعرفة الآخر واكتشاف هويته، وإنما على نزعة مثقلة بالاستعلاء والإقصاء، تعكس ما بداخل الذات من تورمات وعلل وخيبات، كما أنها تشكل لدى طبقة من المسؤولين – وهذا الأهم- قاعدة للفهم والتفكير، واتخاذ القرارات، والتعامل مع الناس، وإن كانوا يضمرونها غالبا، ويجهرون بها أحيانا، بصورة أو بأخرى.خذ أي أزمة، أو قضية، تواجهنا بالمجال العام ، ستكتشف أن وراءها “من أنتم”، الحزبية، مثلا، لا تشكل أي خطر يهدد الدولة أو نظامها السياسي، على العكس تماما، فهي أمتن ركيزة يمكن الاعتماد عليها لأي عملية إصلاح سياسي أو تحول ديمقراطي.لكن عقلية “من أنتم” ترفض ذلك، لأنها ترى أغلبية الأردنيين غير ناضجين، أو أنهم قاصرون عن إدراك مصالحهم، وبحاجة دائما لأوصياء عليهم، فيما الحقيقة أن الأحزاب، متى كانت ولادتها طبيعية، تمثل المجتمع، وتحصنه من الانقسام، وتعبر عن قضاياه بشكل برامجي عابر للشخصنة، وهذا، بالطبع، يتعارض مع منطق ” من أنتم”، ويسحب من دعاته والمستثمرين فيه، شرعية الاستحواذ على منصات الوصاية والسيطرة.خذ، أيضا، أزمة الإدارة العامة، ستجد أن “من أنتم” صنفت المواطنين لقسمين، أحدهما داخل الملة الوطنية، ويستحق أن يحظى بالوظيفة العامة مهما كانت مؤهلاته، والآخر مشكوك فيه، وربما خارج الملة الوطنية، ولا يستحق أن يكون له نصيب في المواقع العامة العليا، ستجد -أيضا- أن “من أنتم” تتغلغل داخل مؤسساتنا التعليمية عبر إعلانات منشورة تشترط أن يكون من يتقدم للوظائف الاكاديمية من خريجي الجامعات الغربية، فيما لا تسمح حتى لمن تخرجوا من الجامعة ذاتها بالتوظيف فيها، ستجد، ثالثا، أن منطق المسؤول في التعامل مع الموظفين داخل المؤسسة، أو الوزارة، يستند إلى “من أنتم”، فهو الذي يفهم المصلحة العامة ويقررها، وهؤلاء مجرد موظفين “كومبارس” ينفذون فقط.خذ، رابعا، أزمة الصحافة الحرة، ستكتشف أن أول ما يسمعه الصحفي أو الكاتب، حين يكتب، أو يتحدث باسم الضمير العام للمجتمع، أو حين ينتقد أداء المسؤولين، هو” من أنتم”، الإشارة، هنا، واضحة، المقصود منها هو أننا وحدنا من يضع ما يناسبكم من سقوف للحرية والتعبير، ومن يقرر المصلحة العامة، ويدافع عنها، ومن يسمح، أو لا يسمح، بوضع “أجندة” ما يجب أن يعرفه الناس.“من أنتم” لا تتعلق، هنا، بتحديد الأدوار، أو الاستهانة بها، أو الغائها إذا لزم الأمر، وإنما تفرض واقعا مشوها يمسك به طرفان، أحدهما يعتقد أنه يملك الحقيقة، ومعه الحق المطلق بتعميمها على الجميع، والآخر لا يريد أن يستسلم لقدره، ولا أن يستنفد القدرة على المواجهة، وقد لا يتورع عن الرد على الطرف الآخر بذات المنطق” من أنتم”، حينئذ من يدفع ثمن هذا الصراع هو الدولة والمجتمع معا.لدي عشرات الأمثلة، الانتخابات والبرلمانات واحتجاجات الناس.. وغيرها، غالبا ما تطاردها صرخة” من أنتم”، اللافت هنا أن من يطلقها، يتخفى لتبريرها وتسويغها بكلمة” نحن”، هذه التي لا تعبر، فقط، عن حقه المزعوم باختزال المجتمع والدولة بذاته، أو تمنحه الحديث باسم الناس، وبالنيابة عنهم، وإنما ” نحن” التي تلغي الآخرين، وتجردهم من حقهم بالسؤال والنقد والمطالبة بحقوقهم، والمشاركة بالعمل العام، “نحن” التي تحرم البلد من كفاءاته، وتحصرها في “علبة” يتزاحم عليها أبناء الذوات، والمحظوظون فقط.لا يمكن أن نتجاوز أزماتنا إلا بإلغاء ” من أنتم” من قواميسنا السياسية والاجتماعية والدينية، ثم ولادة “نحن” أخرى، نتوافق عليها، وتحصننا من التصنيفات الخبيثة، ومنطق الاستهانة والاستحواذ والاستعلاء، “نحن” التي تساعدنا على ترسيم هويتنا الوطنية في حدود “الأردن والأردنيين”، وعلى انتصاب قيم دولتنا على موازين العدالة والحرية، وتماسك بني مجتمعنا، وترميم ما حدث به من اهتزازات وتشققات، “نحن” التي تعني أننا، جميعا، أردنيون، لا فضل لأحد علي أحد إلا بما يقدمه من إنجاز، أو خدمه لبلده، نقطة.
الغد