مَنحت الأزمة الأُوكرانية المُتدحرجة والمفتوحة على احتمالات عديدة, فرصة وبعض الأوراق المهمة للدبلوماسية التركية (التي عانت عُزلة عند بدء هذه الأزمة, وخصوصاً بعد شروع روسيا في عمليتها العسكرية الخاصة). تجلّى ذلك في اتخاذ أنقرة سلسلة من الخطوات اللافتة في أكثر من اتجاه, حرِصت خلالها على الظهور بمظهر المحايد وإن كانت لم تُخفِ تعاطفها المحمول على دعم متدحرج لأوكرانيا, وبخاصّة بعدما «انتقدت» العملية العسكرية الروسية ومسارعتها إلى تفعيل اتّفاقية مونترو الخاصّة بمضيقي الدردنيل والبسفور, الموصِلَين إلى البحر الأسود ومن الأخير إلى البحر المتوسط، في الوقت الذي جددت فيه القول أنّها لن تعترف بـ«ضمّ» روسيا لشبه جزيرة القرم، لكنّها أيضاً لم تُغلق أجواءها أمام الطائرات الروسية، كما فعلت دول الاتّحاد الأوروبي ناهيك عن أميركا. إلى أن أدلى وزير الدفاع التركي/الجنرال خلوصي أكار أول من أمس بتصريحه اللافت الذي جاء فيه أنه «من غير الوارد بأيّ شكل أن تنضم تركيا إلى العقوبات المفروضة على روسيا، بل ـ أضاف - أن بلاده تتحرك بما ينسجم مع العقوبات المفروضة من الأمم المتّحدة». ما يمنح أنقرة المزيد من هوامش التحرك باتّجاه إنجاز المسعى/الوساطة التي سجلت فيها نقطة ثمينة لصالحها, عندما نجحت في جمع وزيري خارجية روسيا/لافروف وأوكرانيا/كوليبا، على هامش انعقاد منتدى أنطاليا الدبلوماسي الذي انتهى للتو في المنتجع التركي.
وإذ حاولت واشنطن «توريط» أنقرة في مأزق كبير, عندما تمّ تسريب أخبار بأنّ الإدارة الأميركية «طلبتْ» منها تسليم منظومة صواريخ S-400 روسية الصنع إلى أوكرانيا، مُقابل إتمام صفقة مقاتلات F-35 الأميركية, التي «طردتها» أميركا من فريق تصنيعها, ورفضت تسليمها ما كانت تعاقدت عليه لحيازتها رغم دفعها ثمنها نقداً، فإنّ «الطلب» الذي قدّمه الرئيس التركي إردوغان للاتّحاد الأوروبي بـ«تحريك» مفاوضات الانضمام إليه، مُغتنما فرصة زيارة رئيس الوزراء الهولندي لأنقرة، يعكس، ضمن أمور أخرى، مدى الخيبة التي شعرت بها تركيا عندما اتّخذ الاتّحاد الأوروبي قراراً بـ«تسريع» ملف قبول أوكرانيا فيه, رغم أنّ أنقرة كانت تقدّمت بطلب الانضمام إليه في العام 1987، ووصلت إلى طريق مسدود في العام 2020، بعد جولات حوار ومفاوضات متعددة, راوحت بين التعثّر والتفاؤل التركي, وبخاصّة بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2020 خصوصا وأنّ الاتّحاد الأوروبي في ذلك العام كان أعلن «توقف» فرص أنقرة في نيل عضويته، مُعللاً ذلك «بسبب القرارات التي تتعارض مع مصالح الاتّحاد الأوروبي, التي اتّخذها قادتها خصوصا أنّ تركيا -كما جاء في بيان الاتّحاد حينذاك - واصَلت الابتعاد عن الاتّحاد الأوروبي مع تراجُع خطير في مجالات دولة القانون والحقوق الأساسية».يشعر الرئيس التركي هذه الأيام بثقة أكبر, بعد أن غادرت بلاده مربع العزلة - بفضل الأزمة الأوكرانية - ومحافظته حتّى الآن على علاقات «طيّبة نِسبياً» مع روسيا، ناهيك عن علاقاته المتينة التي تصل حدود التحالف مع أوكرانيا، ما يسمح له باستغلال الظروف الراهنة لمخاطبة الاتّحاد الأوروبي ودعوته إلى أن «يفتح بسرعة مفاوضات الانضمام، ويبدأ مفاوضات الاتّحاد الجمركي, دون الانجرار وراء حسابات ضعيفة» كما قال.. خصوصا وأنّ أقواله هذه جاءت عشية القمة التي بدأها الاتّحاد الأوروبي في مقره في بروكسل أمس/الأربعاء وتنتهي اليوم/الخميس.وبصرف النّظر عمّا إذا كان الاتّحاد الأوروبي سيأخذ تصريح إردوغان بالاعتبار أم لا، وبخاصّة في ظلّ الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا, وتواصل «حُزم» العقوبات الأوروبية على روسيا, بتحريض من دول معروفة فيه تريد تصفية الحسابات مع موسكو, لأسباب تاريخية وأخرى سياسية وثالثة لدوافع ثأرية وإرضاء لواشنطن، فإنّ مطالبة الرئيس التركي بتحريك ملف مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتّحاد الأوروبي تأتي في وقت مُريح نسبيا لأنقرة, وإن كان الاتّحاد لن يُبدي تشدداً إزاء دعوته إردوغان لأسباب انتهازية أوروبية معروفة، إذ ثمّة من يراهن في أوروبا وواشنطن على استقطاب تركيا إلى جانب مواقفهم المتطرفة نحو روسيا, وإن كانوا يبدون ترحيبا حذراب الوساطة التي يعرضها إردوغان, عبر مسعى لجمع الرئيسين الروسي والأوكراني، في الوقت ذاته الذي تشيع أوساط تركية بأنّ نجاح إردوغان في جمعهما وحال اتّفقا.. بوتين وزيلينسكي على وقف الحرب, فإنّ حظوظ إردوغان بنيل جائزة نوبل للسلام سترتفع بشدّة, لكن حلمه الذي استطال في نيل بلاده بطاقة العضوية في النادي الأوروبي يبدو مستبعدا.. أقلّه في المديين القريب والمتوسط.kharroub@jpf.com.jo
الرأي