الخامس من حزيران/1967، ليس حدثا عابرا في تاريخنا، ولم يكن فقط مجرد سقوط القدس في أيدي الاحتلال “على ما يحمل من فجيعة تمس الكرامة القومية والدينية”، واستكمالاً لاحتلال كل فلسطين والجولان وسيناء، وهزيمة عسكرية لثلاثة أقطار عربية معاً، بل شكل ذلك الجرح الغائر في جسد الأمة، انكسارا نفسياً وهزيمة للإرادة والجندية العربية. وكان الأكثر وقعاً على شخصية الإنسان العربي منذ عقود خلت.
تلك الهزيمة التي يتحمل فيها بعض المغامرين من حكام النظام الرسمي العربي نصيبا وافراً من المسؤولية؛ عندما استهانوا بالعدو والدعم الأميركي والغربي وأمعنوا في تغييب العقل والاستعداد العسكري، وتحصين الجبهة الداخلية في مواجهة عدو شرس؛ فكان ذلك الاثنين الأسود الخامس من حزيران/1967، عندما سفحت الإرادة العربية وكرامة وشرف الجندية فيها، ولم تتحطم الطائرات على مدارجها فقط، بل تحطم العنفوان القومي الذي كان يملأ الدنيا يومها، وبدا أن الهزيمة قدرا مستحكما سيطول ليلها الحالك السواد.لقد انسحبت الهزيمة والإحساس باليأس على المجتمع العربي بكل مكوناته وقواه السياسية، مما زاد في الغطرسة الصهيونية والرغبة الجامحة في التوسع، فكان العدوان فجر الخميس، الحادي والعشرين من آذار من عام 1968، عندما حاولت قوات العدو التقدم على محاور الأغوار وعلى امتداد الجبهة الأطول باتجاه البلقاء والعاصمة عمان، ليعلن وزير الحرب الصهيوني “ديان” باستعلاء وغرور وصلف، أنه سيعقد مؤتمرا صحفيا في العاصمة عمان بعد ساعات، ولكن أبطال الجيش العربي الأردني والمقاومة الشعبية المتواجدة على قاطع الأغوار كانوا على وعدهم مع الوطن وما نكثوا العهد.كان ذلك الفجر عربياً أردنيا، تصدى فيه أبطال القوات المسلحة ببسالة منقطعة النظير، ومع إحراق أول دبابة صهيونية وتوالي الضربات العسكرية لوقف العدوان، بدأت أسطورة الجيش الذي لا يقهر تنهار أمام صمود الجيش البطل، فكان ذلك اليوم من خالدات الأيام في تاريخ العرب كيوم مؤتة واليرموك والقادسية، ارتقى فيه الشهداء للسماء وقد خضبوا هذه الأرض بالنجيع الطاهر كما خضب أجدادهم، جعفر وزيد وعبد الله، أرض مؤتة ذات زمن انتصار عربي آخر على الظلم والطغيان.نقول اليوم إن الكرامة المعركة الخالدة، أسقطت مبكراً تلك الهالة الأسطورية للجيش الذي لا يقهر، وأسست للدخول في حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ولانتصارات تشرين اكتوبر1973 لاحقاً، ذلك أنها أعادت للجندية العربية الاعتبار والثقة والروح بأن الانتصار هو أولا وأخيرا “إيمان وإرادة وتحد”، وأن هذه الأمة بالرغم من الوجع الحزيراني لن تموت، وأنها على موعد مع الانتصار واستعادة الكرامة ووقف الزحف الصهيوني بالرغم من الدعم الأميركي والغربي غير المحدود.ونحن نستحضر الذكرى الرابعة والخمسين ليوم الكرامة الأغر، ننحني أمام الشهداء الأبرار الذي كتبوا بدمهم “وشماً” للحرية والصمود والبطولة على الجباه والزنود، ونطبع قبلة على جبين كل الشهداء الأحياء من قادة وضباط وجنود الذين تشرفوا بان دافعوا عن وطنهم وأمتهم وشعبهم، وحملوا أرواحهم على الأكف، ليبقى هذا الوطن الأردني حرا وعزيزا وسيداً.وسيظل ربيع الانتصار في آذار الكرامة يزهر وردا وكرامة وكبرياءً مهما بقي الدهر، وسيظل من عناوين اعتزازنا الوطني بجيشنا وقواتنا المسلحة الباسلة وقيادته الهاشمية التي قررت ومنذ اللحظة الأولى للعدوان ألا تغيب شمس ذلك اليوم وعلى هذه الأرض الطاهرة أثرا لجندي صهيوني.نحيي هذه الذكرى العظيمة اليوم، بالسلام على الشهادة والشهداء، والسلام على أبطال الكرامة الكبار من قضى منهم نحبه ومن ينتظر، والسلام على الجيش وقيادته وقائده الأعلى جلالة الملك عبد الله الثاني، وسيظل جيشنا محط فخرنا واعتزازنا وهو الذي ما خذل شعبه وأمته في كل المواقع والمواقف منذ أن كان ومنذ أن حمل الاسم الكبير “الجيش العربي الأردني”.
الغد