.. أتابع الإعلام المصري كثيرا، وكلما أدرت مفتاح التلفاز عليه, تذكرت ما تعلمناه في الطفولة عن (المحروسة) تذكرت رائعة أحمد رامي: (مصر التي في خاطري وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي).. والتي غنتها أم كلثوم, صدقوني تلك لم تكن أغنية, بل كانت نبض كل عربي..
قلت أتابع الإعلام المصري, وامس استخرجت آخر لقاءات الراحل الكبير هيكل.. واستمعت إلى ما قاله عن أوكرانيا وروسيا, وشكل الصراع وأصله.. وكم شعرت وأنا استمع له في آخر حلقة بثها من حياته عبر محطة (السي بي سي) مع لميس الحديدي, كم هي عظيمة هذه الدولة, عظيمة بما انتجت من عقول وجنود وحروب, عظيمة بما قدمت للعالم من وتر وتنوير وثقافة وملحمة.. تخيلوا حتى المعارك التي خاضتها مصر، لم تكن مثل معارك هذا العصر بل كانت مختلفة تماما، كان المنجل فيها يقاتل وقصب السكر يقاتل والنيل يقاتل.. وعرق (الغلابى) كان ذخيرة الجند وصبر القا?رة..مصر ليست (الغزالة رايئة)، مصر ليست بالفنان الذي يغني (للحشيشة)، مصر ليست بالمعتوه الذي ظن عبر صراخه بأنه سينافس (ام كلثوم)، مصر ليست بالجيل التائه، الذي يفرح إن افتتح (مطعما) هنا، أو إن فاز منتخبها بمباراة هناك... مصر ليست فيلما لهند صبري يتمرد على قيم الناس وعاداتهم، ويتمرد على خجل النيل والمجداف والقارب.. مصر هي قائدة العالم العربي، هي من صنعت إيقاعا عروبيا.. هي التي عرى فيها (احمد زكي) رأس المال وعرى السلطة، هي من أنتج نجيب محفوظ فيها.. من الدم ملحمة وكتابا، ونسج اسمها في فضاء العالم كوطن يتوضأ بالكبريا? ويصلي على الرمل، وتكتحل به عين السماء كلما شاهدت وجوه الناس في القاهرة.. مصر هي أحمد عرابي وسعد زغلول وسيد مكاوي، هي اجتماع النار مع الوتر.. واجتماع الحب مع التاريخ، وهي فوق كل ذلك وبعد كل ذلك ستبقى وحدة القياس للعروبة.. والعقل والزمن العظيم.حزين جدا.. حين يفتح أولادي هواتفهم، ولا يجدون شيئا يأتيهم من مصر غير (الغزالة رايئة).. حزين جدا حين يدير أولادي التلفاز، ويشاهدون تمردا لهند صبري على قيمنا باسم الحداثة والتطور.. ويقرأون ألوف التغريدات التي تدافع عن دور هند في فيلم هابط، ولا يعرفون.. كيف تمرد محمد عبدالوهاب على اللحن، وانتج من نفسه حالة عالمية في الموسيقى.. لا يعرفون كيف أبدع علاء الأسواني في الرواية، وحزين جدا أن (حمو بيكا وحسن شاكوش) صارا هم الأكثر شهرة عند هذا الجيل, بالمقابل غابت شمس أمل دنقل الذي خط على ماء النيل أجمل قصائد الرفض وعلم?العرب كيف يكون الشعر سيفا وطلقة وقذيفة.. ويدا تمتد لكل مقاوم..كنت أتمنى عبر الصراع الأوكراني – الروسي، أن استمع لهيكل هذا المفكر العظيم الذي انتج التحليل والقراءة التاريخية، وعلمنا أن العقل العربي يعيش خارج أطر الطاعة العمياء، وهو عقل عبقري وعظيم.. كنت اتمنى أن استمع له كي يوجه نصائحه لعالم عربي تائه ومرتبك وحزين.. لكن هيكل مات، ومصر ولادة كان عليها أن تنتج خليفة لهيكل..!!مع كل ذلك سأظل مؤمنا بقصيدة غنيتها في طفولتي: (مصر التي في خاطري وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي)، سأظل مؤمنا بأن.. العروبة ولدت في النيل، والعقل العربي المستنير هو من يسكن أحياء القاهرة، سأظل مؤمنا بأنها أم الرفض وأم السياسة وأم الوتر.. ومصدر الحياة.. لا بد للنيل يوما أن يعود كما كان.. يرتوي منه العرب، كل العرب.. ويسري في عروقهم ومع سريانه, سينبت وهج العروبة من جديد..سلامي للمحروسة..Abdelhadi18@yahoo.com