مدار الساعة - "انتشار النازيين في أوكرانيا، بدعم أوروبي، يهدد أمننا"، هكذا صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. وهو، كغيره من التصريحات غير الواضحة التي لا تمكننا من فهم أزمة الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا على نحو صحيح. فمن هم أولئك النازيون ومن أين أتوا، ومن هو المقصود؟ كلها أسئلة بلا إجابات شفافة، إذ يبقى المعنى حبيس بطن لافروف.
في الحرب الدائرة حالياً، لا تبدو أوكرانيا مجرد طرف أو مسرح أحداث، بل تبدو أوكرانيا معركة شديدة الضخامة والاشتباك مع التاريخ والجغرافيا، اللذين جمعا كييف وموسكو لعقود ما قبل التقسيم.
وفي قادم السطور قصة صعود أبرز وجوه الحرب للسلطة في أوكرانيا، والذي خدمته الظروف أو ورطته، ليكون رأس حربة الغرب في محاربة بوتين ومشاريعه التوسعية، الحديث عن الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بطل مسلسل "خادم الشعب" والمطلوب الأول لدى موسكو!
ما قبل خادم الشعب
في منتصف التسعينيات أسس زيلينسكي مع عدد من أصدقائه فرقة خاصة للكتابة والتمثيل حملت اسم "الحي 95" أو بالأوكرانية "كي فارتال 95". وشارك في العديد من الأعمال التليفزيونية وبرامج البث المباشر، اعتاد زيلينسكي لعب دور الأشخاص العاديين الذين يملكون روح المرح والسخرية من الأشياء.
يقول محرر صحيفة "ذا أوديسا ريفيو" الأوكرانية، فلاديسلاف دافيدزون، عن زيلينسكي: "الكوميديا التي كان يؤديها هي كوميديا صبيانية، سوقية، للطبقات العاملة، أو ما يسميه الروس [المرح السوقي]".
قبل عرض مسلسل "خادم الشعب" كان الشعب الأوكراني قد أسقط الرئيس "فيكتور يانكوفيتش" الرجل الذي قيل إنه رجل روسيا في أوكرانيا!
يبدو الأمر مثيراً للدهشة ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا بدأت منذ العديد من السنوات، وكما كانت الحرب الباردة حرباً بلا رصاص، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا قبل الأحداث الأخيرة كانت كذلك، نجح الكرملين في التوغل داخل أوكرانيا بقوة وبدعم كبير حصل بعض الأشخاص الأوكرانين ذوي الميول الروسية على مناصب رفيعة داخل الأجهزة الأوكرانية، ونجحت المخابرات الروسية في إحداث جمود عام في المشهد السياسي الأوكراني قائم في الأساس على تبادل الاتهامات وكشف الفضائح والتعاملات المشبوهة مع الجانب الروسي، لذلك حينما بدأ زيلنيسكي في الصعود على المنصات كرجل بلا تاريخ سياسي يتحدث في السياسة، فإن وجوده كان مربكاً، وغير محسوب، كما أن خلو سجله تماماً من أي شيء يشوه صحيفته ساهم في ارتفاع أسهمه لدی عامة الناس الذين فتنهم الرجل الذي لا يريد إلا السلام ومحاربة الفساد.
كريفيه ريه.. حيث ولد زيلينسكي
يبلغ الرئيس الأوكراني 44 سنة، لم يكن يتوقع أحد أن ابن المدينة الصناعية التي تتحدث الروسية هو نفسه سيكون الرئيس الأوكراني الذي سيضطر لمواجهة غضب الدب الروسي وإيقاف زحفه، ولكن الأقدار دائماً تحمل ما لا يمكن توقعه. ولد زيلينسكي في عام 1978 لأب وأم يهودين، عمل الأب كعالم كمبيوتر بينما والدته كانت مهندسة، أما "فوفا" كما كان يُطلق علی فولوديمير من قبلُ المقربون فقد درس الحقوق وتخرج فيها، وفيما كان يتوقع المقربون منه أن يعمل في مجال المحاماة كان هو يخطط ويكتب ويمثل الاستكشات الكوميدية مع أبناء مدينته.
وفي عام 2003 تزوج من "أولينا زيلينسكا" وأنجب منها ولداً وبنتاً. تبدو قصة حياة زيلينسكي قبل الرئاسة شيئاً عادياً جداً، تصلح كقصة نجاح ممثل كوميدي راج عرضه ونجح في الوصول لكل الناس، ولكن التحول غير المعقول في قصة حياته، والذي جعله يتحمس ليطبق المسلسل علی أرض الواقع شيء غير متوقع.
خادم الشعب
بدأت أولى جولات الانتخابات الرئاسية بعد عرض الحلقة الأخيرة من الموسم الثالث من مسلسل "خادم الشعب"، ليبدأ عرض جديد علی أرض الواقع بعدما بدأت الانتخابات الرئاسية بين مرشح حزب "خادم الشعب" وبين الرئيس الأوكراني "بيترو بوروشينكو".
تأسس الحزب بعد سنتين من بداية عرض المسلسل الذي تدور فكرته حول انتشار فيديو لمدرس تاريخ عبر الإنترنت يهاجم فيه الفساد بغضب كبير وحينما تتم مشاهدة الفيديو علی نطاق واسع فإن كل الآراء والتعليقات تدعمه للترشح للرئاسة بعد نجاح زيلينسكي قام بحل البرلمان وشرع في إجراء انتخابات برلمانية نزيهة تهدف لتدعيم موقفه في الرئاسة والحصول على ثقة أكبر من الناس، وهو ما حدث فعلاً حينما حصل حزبه "خادم الشعب" علی نسبة 43% من الأصوات.
المشهد السياسي الأوكراني متشابك جداً بنفس قدر تشابك التاريخ، فمن خلال الاستقصاء والبحث نجد أن زيلنيسكي الذي قادته الصدفة لكرسي الرئاسة ومنه إلی الحرب مع روسيا لم يكن مؤهلاً بشكل كافٍ لدخول هذه الصراعات، والتي بدأت قبل توليه الرئاسة بكثير، والتي كان من المفترض أنه علی دراية كافية بها، فبين أحزاب مؤيدة لروسيا مثل "منصة المعارضة" وأحزاب موالية لأوروبا مثل "التضامن الأوروبي" بزعامة الرئيس السابق بترو بوروشنكو، و"الوطن" بزعامة رئيسة الوزراء السابقة يوليو تيموشنكو، وحزب "غولوس" الذي أسسه في مايو/أيار 2019 نجم الروك الأوكراني "سفياتوسلاف فاكارتشوك"، تتعارض كل هذه الأحزاب لتشكل فسيفساء غير متناسقة، وتخلط بين مصالحها وبين مصالح الشعب الواحد الذي لا يجتمع علی لغة واحدة في الأساس، وتشكل كل هذه العوامل ثيمات غير منظمة تبعثر ما قد يمكن إصلاحه في الظروف العادية.
الأوليغارشية: حكم القلة الأقوياء في أوكرانيا
الأوليغارشية -حكم الأقلية- هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية. بدت أولی محاولات زيلينسكي للإصلاح بمحاولة تقييد نفوذ الأوليغارشية ولكنها اصطدمت بشكل آخر مع ممول حملته الانتخابية "إيهور كولومويسكي" الذي تأتي محاولة التعرف عليه، ككل ما هو متعلق بالشأن الأوكراني الروسي، معقد وضبابي.
في يوليو/تموز 2020 رفعت إدارة بنك بريفات الأوكراني دعوى قضائية لمقاضاة كُل من "إيهور كولومويسكي" و"هينادي بوهوليوبوف" مالكي البنك السابقين قبل تأميمه من قِبَل الحكومة الأوكرانية بسبب معاملات مشكوك فيها لصالح شركات تخصهم بلغت حوالي 750 مليون دولار، بحسب موقع "أوكرانيا برس".
يُعد الملياردير اليهودي الممول لحملة زيلينسكي مدخلاً لإدراك ضبابية الحياة السياسية في أوكرانيا، فهذا الرجل الذي دعم وساند زيلينسكي للوصول لكرسي الرئاسة هو أحد أكبر المتسببين في أزمات أوكرانيا الاقتصادية، وخصوصاً التي ظهرت بعد جائحة كورونا.
الرجل المتورط في قضايا غسل أموال في أمريكا والمتهم بالاختلاس واستغلال النفوذ وسرقة أموال بنك بريفات الذي تم تأميمه من الحكومة تصل المبالغ المستحقة عليه لأكثر من 5 مليارات يورو. يقف زيلينسكي أمام مأزق الأقلية الأقوياء في منتصف المسافة، تماماً كما وقف البرلمان الأوكراني الذي صوت بعض أعضائه.
في جلسات برلمانية عُقدت بين مارس/آذار ومايو/أيار 2020 في المنتصف بين تأييد القانون المناهض لكولومويسكي وبين الاعتراض عليه. الموقف المحايد جاء بعدما أكد البعض أن الموافقة علی القانون ستكون خضوع لأمريكا وشكل من أشكال التبعية بعدما أدانت أمريكا كولومويسكي واتهمته بغسل الأموال، بينما معارضو القانون كانوا علی ثقة بأن معارضة أمريكا هي موالية لروسيا بالضرورة، ورغم ذلك كانوا يرون أن الحصول علی قروض من صندوق النقد الدولي ستفرض قيود أمريكا علی العملية الديمقراطية في أوكرانيا وفي ظل وجود موالة حقيقية من قِبَل بعض السياسيين الأوكرانيين للنظام الروسي، فإن كل ما تمليه أو تقرره أمريكا هم معارضون له بدون النظر لنتائجه.
يملك الرجل البالغ من العمر 59 ثلاث جنسيات وهي الأوكرانية والإسرائيلية والقبرصية وبالرغم من أن القانون الأوكراني يحظر حمل جنسيتين، ولكن هذا الرجل الذي شغل منصب حاكماً لـ"دنيبروبتروفسك أوبلاست" في إشارة لقوة نفوذه البالغة في السيطرة بفضل أمواله علی المشهد العام في أوكرانيا، بعدها وصفه فلاديمير بوتين في ظل أزمة جزيرة القرم التي انضمت لروسيا في 2014 بأنه محتال فريد.
ومن المواقف الأولی بين روسيا وكولومويسكي، فإن العداء الشديد يظهر من جانب بوتين وحكومته التي أممت هي أيضاً أصول كولومويسكي في القرم فور وقوعها تحت يديّ الدب الروسي، بالإضافة لمحاربة الإرهاب الروسي كما كان يردد دوما كولومويسكي في ظل محاولات روسيا في القرم. في أبريل/نيسان 2014 عرض كولومويسكي مبالغ مالية ضخمة للمقاتلين الروس الذي يسلمون أسلحتهم بينما اذنت محكمة روسية في 2 يوليو/تموز 2014 باعتقاله بتهمة تنظيم قتل مدنين واعتبر من ممولين الإرهاب في القرم والمساهم الأول في عمليات قتل الروس فيها.
وبالنسبة لأمريكا فقد أعلن أنتوني بلينكين وزير الخارجية الأمريكي في يوم الجمعة الماضي 4 مارس/آذار، أن الولايات المتحدة قررت فرض عقوبات على الملياردير الأوكراني إيهور كولومويسكي لاتهامه بالضلوع في عمليات فساد كبرى.
يبدو أن الملياردير الذي يدير أعماله من سويسرا غير محسوب علی أحد بشكل كلي، ولكنه أيضاً لا يعد شعبياً إلا رجل "فاسد" يمتلك نفوذاً طاغياً استناداً علی أمواله وعلاقاته برجال السياسة أو اليهود الذين يمتلكون نفوذاً بالغاً في الحياة السياسية العالمية.
انترنت