مدار الساعة - الأزمة الأخيرة بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، والاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا، يوفّران فرصة للمتابعين والمحللين لمعرفة طريقة التفكير واتخاذ القرار في الدول الكبرى، عندما يتعلق الأمر بالحروب والاستفادة سياسياً واقتصادياً واستخباراتياً من أخطاء الغير، مثلما يرتبط بما تكسبه وما تخسره الدولة الغازية ومنافسوها الكبار من الحرب، فشن أي دولة لحرب ما يمثل فرصة للدول الأخرى لجني مكاسب من هذه الحرب، أو من أخطاء هذه الدولة.
ولشرح هذه الفكرة يمكننا العودة للخمسين عاماً الماضية، لمعرفة كيف كان تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام أحد الأسباب الرئيسية لإقامة علاقات دبلوماسية -واقتصادية لاحقاً- بين الصين والولايات المتحدة، وهي علاقة ابتدأت بدبلوماسية تنس الطاولة الشهيرة، وانتهت بزيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين. فقد دعمت الصين الثوار الشيوعيين في فيتنام الشمالية ضد القوات الأمريكية بصورة أجبرت واشنطن على البحث عن مخرج يحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية، التي أرهقتها حرب الاستنزاف الفيتنامية. وقد كسبت الصين من التورط الأمريكي في المستنقع الفيتنامي علاقات دبلوماسية مع عدوها الأمريكي، ودعماً أمريكياً في مواجهة العداء السوفييتي، واعترافاً أمريكياً بالصين كممثل دائم في مجلس الأمن بديلاً لتايوان.
مثال آخر على استفادة الدول من أخطاء الدول الأخرى في الحروب الدعم المادي والعسكري واللوجستي الكبير الذي وفّرته الولايات المتحدة للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي، الذي استمر طوال عقد الثمانينات من القرن الماضي. وهناك مقولة معروفة لدبلوماسي أمريكي لم تسعفني الذاكرة لتذكّر اسمه، قاد الدعم اللوجستي والعسكري مع حلفاء واشنطن في أفغانستان ضد الروس، يقول فيها: "هذا أفضل مكان نحارب فيه الروس". فما دامت ليست هناك إمكانية لمواجهة عسكرية مباشرة بين أكبر قوتين نوويتين في العالم، فقد وفّر الغزو السوفييتي لأفغانستان فرصة ذهبية للأمريكيين لتركيع العدو السوفييتي عسكرياً واقتصادياً، الأمر الذي كان أحد أسباب تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي.
الغزو الأمريكي للعراق أيضاً كان فرصة لروسيا والصين للاستفادة من أخطاء الولايات المتحدة، حيث استفاد بوتين من دخول الأمريكيين في المستنقع العراقي في تعزيز سلطته في الداخل الروسي وفي محيطه الإقليمي، حيث لم تملك واشنطن مبرراً أخلاقياً أو سياسياً للوقوف بوجه روسيا، عندما دخلت قواتها جورجيا ودعمت إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ضد حكومة تبليسي المدعومة من الغرب.
وكذلك استفادت الصين في تطوير قوتها العسكرية والاقتصادية في خضم الانشغال الأمريكي بالمستنقع العراقي. كما وفّر غزو العراق فرصة ذهبية للعسكريين الصينيين لدراسة التكتيكات العسكرية الأمريكية في الحرب، ومعرفة نقاط ضعف وقوة الأسلحة الأمريكية. ولاحقاً استفادت الصين اقتصادياً بدخول شركاتها في استثمارات نفطية وأخرى للبنية التحتية في العراق.
الحرب الحالية إذن ستُشكّل فرصة للولايات المتحدة لإحراز أهداف اعتماداً على أخطاء الفريق الروسي الخصم، والأيام القادمة ستكشف عن طبيعة هذه الأهداف ومدى قوتها وتأثيرها. ويتوقع أن يكون غالبها اقتصادياً، يهدف للضغط على روسيا اقتصادياً في مجالات الغاز والتعاون الاقتصادي والمصرفي، لكنها أيضاً تشكّل فرصة للصين، التي تعمل بمبادئ الجنرال الصيني سون تزو، صاحب كتاب "فن الحرب" الشهير قبل ستة عشر قرناً، في الاستفادة من أخطاء العدو، لتستفيد من الاجتياح الروسي في تحقيق أهداف دبلوماسية وسياسية وعسكرية واقتصادية لصالحها.
يجب التوضيح في البداية أن روسيا كانت على الدوام غريماً للصين، فحتى في أشدّ سنوات الحرب الباردة قسوة وصعوبة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لم تكن العلاقات بين الجار السوفييتي والصين جيدة، وما زال الصينيون يذكرون قطع السوفييت للتكنولوجيا العسكرية وإمدادات الحديد عنهم، من قبل الزعيم ستالين، الذي وصلت العلاقات في عهده لدرجة خطيرة قاربت شن الحرب بين البلدين. وبينما يدور الحديث في الإعلام دوماً عن خصومة وكراهية صينية للولايات المتحدة، فإن المتابعين للسياسة الصينية يعلمون جيداً أن المنافس الحقيقي لبكين كان على الدوام هو روسيا، وأن كراهية النخب الشيوعية الصينية للروس تفوق كراهيتهم (هذا إن كانت هناك كراهية للأمريكيين).
التحليلات الاستخباراتية تقول إن بكين تجاهلت تحذيرات للاستخبارات الأمريكية من هجوم روسي وشيك، وتركت نحو 6 آلاف من رعاياها يواجهون خطر القتال. ويقول محللون إن الحرب كانت "مفاجئة تماماً" للقيادة الصينية، حيث استضاف الرئيس الصيني نظيره الروسي، الذي حضر حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية قبل شهر، وأعلن الاثنان في بيان مشترك أنهما "يقفان جنباً إلى جنب في مواجهة توسع حلف الناتو في أوروبا الشرقية". ونقلت وسائل إعلام عن خبير ياباني بالشؤون الصينية "لو كانت القيادة الصينية تنبأت بالحرب لما كانت وافقت على مثل هذا البيان المشترك بين جينبينغ وبوتين". وسعياً منها للحفاظ على "شعرة معاوية" التي صارت تربطها بأوكرانيا، أعرب وزير الخارجية الصيني في اتصال هاتفي مع نظيره الأوكراني (الثلاثاء) عن "أسفه الشديد" للنزاع، آملاً في إيجاد سبيل لحلّ الأزمة دبلوماسياً.
من المصادفات الغريبة أن الأسبوع الماضي الذي بدأ فيه الاجتياح الروسي لأوكرانيا يوافق الذكرى الخمسين، لزيارة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون إلى الصين، وهي خطوة يُنظر إليها على أنها دق إسفين بين أهم قوتين شيوعيتين في ذلك الوقت، الاتحاد السوفييتي والصين. كما فتحت زيارة نيكسون الباب أمام الولايات المتحدة لتحويل اعترافها الدبلوماسي من جمهورية الصين (تايوان) إلى جمهورية الصين الشعبية. لكن ليس هناك دليل على أن العلاقات ليست في أفضل أحوالها بين واشنطن وبكين من أن وزارة الخارجية الأمريكية لم تُصدر أي بيان عن خطط للاحتفال بهذه الذكرى، على الأقل في الوقت الحالي.
وبالرغم من أن تراقب الموقف وردة الفعل الغربيين تجاه اجتياح الجيش الروسي لأوكرانيا، يمكن أن تكون الحرب الحالية "دراسة حالة" لما يمكن أن يتخذه الغرب تجاه الصين في حال اجتاحت الأخيرة تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها، وتدور كل علاقاتها الخارجية مع بقية دول العالم حول فلك "سياسة صين واحدة".
إلّا أن الصين تجد نفسها في موقف دبلوماسي لا تُحسد عليه بالنسبة لاعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين. ففي اعتراف واضح بمعضلتها الدبلوماسية امتنعت الصين يوم الجمعة عن التصويت في مجلس الأمن لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، بدلاً من الانضمام إلى موسكو في استخدام حق النقض. فمن الصعب التوفيق بين هذه الحجة وما يحدث في أوكرانيا، حيث مهد بوتين الطريق لغزوه بإصدار مرسوم يعترف فيه بأن منطقتي لوغانسك ودونيتسك بشرق أوكرانيا دولتان مستقلتان.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وين بين، عند سؤاله يوم الجمعة عما إذا كانت حكومته ستعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك تهرّب من الإجابة عن السؤال، كما امتنع عن وصف العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها "غزو"، قائلاً إن الصين "تتفهم مخاوف روسيا المشروعة بشأن القضايا الأمنية".
وقد علّق ديريك غروسمان، كبير محللي الشؤون الدفاعية في مؤسسة راند (Rand Corporation) البحثية الأمريكية، بالقول: "من المرجح أن تتجاهل بكين ببساطة السوابق غير الملائمة والأحداث العالمية من أجل الحفاظ على أقصى قدر من المرونة في التعامل مع تايوان".
يبدو أن الجانب التقني والعسكري للصراع له تأثيره أيضاً على الصين وجوارها، حيث استهدفت الولايات المتحدة الجيش الروسي بعقوبات جديدة، بقطعها لإمداد روسيا بالرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات)، ما يُعد ضربة للقوة العسكرية الروسية وصناعاتها الدفاعية. حيث ستؤدي هذه الخطوة إلى قطع إمدادات الرقائق الإلكترونية التي تنتجها شركات أمريكية لروسيا، كما تعهدت شركة Taiwan Semiconductor Manufacturing Company التايوانية، وهي أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، حيث تسيطر على أكثر من نصف السوق العالمية، بالامتثال الكامل لضوابط التصدير الجديدة. وإذا ما علمنا أن الولايات المتحدة كانت قد شددت خلال إدارة ترامب من عقوباتها على شركة "هواوي" الصينية المصنعة لهذه الرقائق أيضاً، فسيمكننا معرفة التأثير الغربي الكبير على الاقتصاد والتكنوجيا في كل من الصين وروسيا.
ويبدو أن إدارة بايدن الملتزمة باستراتيجية "العودة لآسيا" (Pivot to Asia)، التي بدأها سلفه الديمقراطي باراك أوباما، أرادت أن ترسل رسالة للصين بأنها لا تزال ملتزمة بحماية تايوان من أي تحركات عسكرية صينية، خاصة في ظل الظروف الحالية في أوكرانيا، والتي يمكن أن تغري الصين باتخاذ خطوات مشابهة لروسيا.
حيث السفينة الحربية الأمريكية "رالف جونسون" عبر مضيق تايوان، السبت الماضي، حيث قال الأسطول السابع الأمريكي في بيان إن المدمرة التي تحمل صواريخ موجهة، أبحرت عبر المياه الدولية "بصورة اعتيادية". كما بيّنت وزارة الدفاع التايوانية أن السفينة أبحرت عبر المضيق في اتجاه الشمال، وأن قواتها راقبت عبورها ولم تلحظ أي شيء خارج المألوف.
يمكننا إذاً القول إن الاجتياح الروسي لأوكرانيا حمل معضلة دبلوماسية للصين فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الاعتراف الروسي بإقليمين انفصاليين في أوكرانيا.
لكنه يحمل أيضاً فرصة ذهبية لقراءة ردود الفعل الأمريكية والأوروبية في حال قررت بكين القيام بخطوة مشابهة تجاه تايوان. وهو أمر يبدو أن إدارة بايدن أرادت تحذيرها منه، بإرسالها سفينةً حربيةً عبرت مضيق تايوان، السبت الماضي. كما تكشف الأزمة أيضاً أن مستوى التنسيق السياسي والاستخباري بين بكين وموسكو ليس بمستوى القوة والثقة الذي تريد القيادتان في البلدين الإيحاء به للغربيين. فكلا الطرفين لديه مخاوفه من الآخر، لكن المرحلة الحالية تتطلّب تحالفاً مؤقتاً بين القوتين الكبيرتين في شرق آسياً لمواجهة التحركات الأمريكية لتقليص نفوذهما المتزايد في الشؤون الإقليمية والدولية.