يظهر المشهد الدولي المأزوم الراهن, وتتكشّف على نحو غير مسبوق, طبيعة وحجم الهيمنة الأميركية على مختلف المنظمات الإقليمية وخصوصاً الدولية, حتى تلك التي تقف الولايات المتحدة منها «تاريخياً»... موقفاً عدائياً, رافضة في الوقت نفسه الانضمام إليها أو التوقّيع على بروتوكولات تأسيسها وبخاصة محكمة الجنايات الدولية/(نظام روما الأساسي1998).. بذريعة «حماية» جنودها من الاتهام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، فضلاً عن إجبارها الدول التابعة لها أو المهيمنة على قرارها توقيع اتفاقيات «ثنائية»، تحول دون تسليمها الجنود?أو شخصيات أميركية رسمية للمحكمة، أو حتّى محاكمتهم على أراضي تلك الدول.
لكنها واشنطن في الآن نفسه تبدي حماسة محمولة على تحريض وضغوط على المحكمة, لفتح تحقيقات ضدّ رؤساء دول وشخصيات سياسية وعسكرية في دول تُناهض سياساتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ناهيك عن الدفاع الأميركي المستميت عن جرائم الدولة الصهيونية, واعتبار ما قامت وتقوم به إنّما يندرج في إطار «حقِّها» في الدفاع عن نفسها، زِد على ذلك وصفها الاتّهامات بأنّها «مُفبركة ومن صناعة المنظمات الإرهابية والهيئات والدول التي تُعادي السامية وتُنكر الهولوكوست».
وإذا ما دقق المرء في «عدد» التحقيقات التي «فتحتها» المحكمة الدولية منذ انتخاب أول هيئة قضائية لها عام 2003، فإنّه يلحظ بسهولة تركيزها على دول الجنوب.. قادة وهيئات ومنظمات وتنظيمات تتهمها بارتكاب جرائم حرب.
لكنّها من فرط الهيمنة الأميركية على قراراتها تنصاع لضغوط واشنطن وتتلكّأ في فتح تحقيقات في جرائم صهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني, إلى أن «شَرِبت» المدعي العام السابق/الغامبيّة/فاتو بنسودا «حليب السِباع» وقررت أنّ اختصاصها القضائي يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ما اعتبره الفلسطينيون حينذاك/شباط 2021 نصراً تاريخياً، لكنّها غادرت موقعها وجاء المدعي العام الحالي/كريم خان.. الذي دعمَتْ إسرائيل/والولايات المتّحدة ترشيحه بقوة لخلافة/بنسودا، لكنّ شيئاً لم يحدث في هذا الاتّجاه، خصوصا وأنّ إسرائيل التي انتقدت «بنسودا»?بشراسة واتّهمتها بمعاداة السامية فيما «حظرتْ» واشنطن عليها دخول الولايات المتّحدة وألغت تأشيرتها.. قالت/تل أبيب: انّها لن تتعاون مع المحكمة ولن تسمح لفريقها بدخول إسرائيل (تماماً كما فعلت أخيرا مع فريق منظمة العفو الدولية, التي وصفتها في تقريرها الأخير بأنّها «دولة عنصرية»).
ما علينا..
عشرون عاماً مضت على اكتمال هياكل الجنائية الدولية ولكن تأثيرها يكاد يقترب من الصفر, نظراً لمعاداة الولايات المتّحدة ومعظم المعسكر الغربي لها، وعرقلتهم المستمرة لدورها, ومع ذلك.. وإذ لم يمضِ على العملية الخاصة الروسية خمسة أيام (حتّى الاثنين الماضي) حتّى خرج علينا كريم خان/مدعي عام الجنائية الدولية, مُعلناً في حماسة أنّه «سيفتح (في أسرع وقت) تحقيقاً بشأن الوضع في أوكرانيا, مُتحدثاً عن جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية, مضيفاً في بيان «نارِي» أنّه واثق بأنّ ثمَّة قاعدة «منطقية» للاعتقاد أنّ جرائم حرب وجرائم ضدّ?الإنسانية تمّ ارتكابها في أوكرانيا منذ العام 2014, وكان خان في وقت سابق أعربَ عن قلق «مُتنامٍ» حيال التطورات الأخيرة في أوكرانيا.
لافت أيضاً أنّ أوكرانيا «لم» تُوقع معاهدة/نظام روما التي نصّت على إنشاء المحكمة الجنائية، لكنّها اعترفت باختصاص المحكمة بالنسبة إلى الجرائم المُرتكبة على أراضيها. وهنا علينا التوقف عند «التوقيت» الذي اختاره خان, لإعلان «ثقته» بأنّ ثمّة قاعدة منطقية للاعتقاد أنّ جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية قد تمّ ارتكابها منذ العام 2014، ونحسب - دونما تحيّز- أنّ أمر العمليات قد صدر من واشنطن وبروكسل/الاتحاد الأوروبي, كورقة ضغط أخرى في حملة شيطنة وتشويه سمعة روسيا, وإظهار أوكرانيا وقيادتها كضحية لعدوان روسي توسّعي، في الو?ت ذاته الذي غضّت فيه المحكمة ذاتها قبل وخصوصاً في عهد فاتو بن سودا (ولاحقا كريم خان) بصرها عمّا حدث ويحدث في إقليم الدونباس, من جرائم وقتل على «الهوية العِرقِية» منذ العام 2014 حتّى الآن.
في السطر الأخير.. نظرة فاحصة لما حدث ويحدث الآن من اصطفافات وتحالفات دولية وإقليمية, وحملات إعلامية مُركزة وتقارير مفبركة, وأخرى تروم أخذ العالم إلى مربع حرب كونية جديدة بأسلحة تقليدية أو نووية.. يدرك العقلاء أنّ أحداً لن يخرج منها منتصراً, خاصة إذا ما تدحرجت الأمور إلى نقطة اللاعودة عبر استخدام «سلاح يوم الدين».. إنّ المعسكر الغربي بقيادة أميركية, الذي اصطدمت مُخططاته بمواصلة هيمنته على العالم وفرض جدول أعمال قائم على نهب الثروات واستغلال الشعوب وانتهاك سيادة الدول وعسكرة العلاقات الدولية.. نقول: اصطدمت م?خططاته بحقيقة بروز قوى مُنافسة «سِلمياً», تدعو إلى عالم مُتعدّد الأقطاب.. قام لإفشال تلك الدعوات.. بافتعال الحروب وتوسيع/تمدّد حلف الأطلسي, الذي يزعم أصحابه أنّه حلف دِفاعي, فيما كلّ ما قام ويقوم به هو تكديس المزيد من القوات والأسلحة والذخائر وشن الحروب وافتعال الأزمات وتوتير العلاقات الدولية..
kharroub@jpf.com.jo
الرأي