كل يوم لا بد أن يزج اللاجئ الأوكراني في الأخبار.. على الحدود البولندية يحضرون لهم أكياس الطعام, والعصائر والعناق.. وقد قالت وزيرة داخلية أوروبية أمس أن (90%) من اللاجئين الأوكرانيين تم توفير السكن الملائم لهم... تخيلوا حتى أن دخولهم لا يحتاج لأوراق المطاعيم... ولا لجواز سفر, الهوية تكفي حتى لو كانت منتهية الصلاحية!... أنا في عمان إذا أردت دخول (مول) علي أن أبرز شهادة المطعوم, واتعرض لفحص الحرارة.. واشتري كمامة.
كانت تحدثني جارتنا (أم محمود) عن اللجوء, أخبرتني بأنها حملت محمود وشقيقته... ورضيعها, حملتهم الثلاثة... ومشت مسافة (30) كيلو متراً... أخبرتني بأنها امضت عاما كاملا في الخيام, قبل أن يبني أبو محمود غرفة من الصفيح في مخيم البقعة... أخبرتني بأنها كانت تسري مع خيوط الفجر الأولى, بحثاً عن الحطب من أجل أن تصنع الخبز لأولادها... وقالت لي ان منظمة غوث وتشغيل اللاجئين كانت تمنحهم (سمنة كاكوزي).. و(كرتاً) للمؤن فقط..
لماذا يجب أن يكون اللجوء الفلسطيني مأساة, تسجل في روايات غسان كنفاني وقصائد محمود درويش فقط, بالمقابل قلب أوروبا الرحيم كان متعلقاً بسلامة إسرائيل وانتصاراتها.. لماذا يجب أن تحظى الأم (الأوكرانية) بالرعاية والحب والدفء, بالمقابل تمشي الأم الفلسطينية حافية القدمين... هل لأن الأم الفلسطينية سمراء؟ وكفها خشنة.. هل لأنها غطت الرأس.. وأقامت الصلاة مطلع الفجر؟... هل لأنها من العالم الثالث والأم (الأوكرانية) من العالم الأول؟
أم محمود تحملت كل اعباء اللجوء, تحملت غياب (ابو محمود) سنوات جراء التوقيف على المعابر بين بلدان العالم العربي.. تحملت الفقر, ونزف الصفيح... وما من مسؤول أوروبي بكى عليها, ما من دولة أوروبية أرسلت لها الدواء.. ما من محطة تقدمية مثل (السي أن أن) بثت صوتها للعالم... تعاملوا مع جراح الناس في أوطاننا على أنها.. مجرد جراح لفائض بشري لا يحتاجه العالم...
الأم الأوكرانية التي انغمست في المجتمع البولندي, ستذوب مع هذا المجتمع.. أنا زرت بولندا وطفتها وأعرفها جيداً, ولكن الأم الفلسطينية لم تذب.. لم تتبدل هويتها, ما زالت كل عام تنتظر الزيت من البلاد... وتنتظر الزعتر, ما زالت تحفظ اسماء القرى والبنات... ومن تزوجت ومن انجبت ومن ماتت ومن شفيت من المرض.. الأم الأوكرانية ربما ستنجب طفلاً وسيكون من النازيين الجدد, من الحركات التي ترفض الآخر.. ربما سيعيدون إنتاج هتلر وموسوليني.. ويعيدون إنتاج النازية والفاشية, كما يحدث الآن.. بالمقابل الأم الفلسطينية التي رحلت بأطفالها إلى هنا صنعت منهم أفضل الأطباء وأفضل المهندسين... وزرعت فلسطين في أجسادهم وريداً علمتهم حب العروبة والشهادة... لهذا لم تذب القضية ولم تسقط... علمتهم أن الكتاب مثل البندقية.. هو طريق للتحرير والحياة..
حين شاهدت الأمهات الأوكرانيات على المعابر, عاد ذهني للأمهات الفلسطينيات.. اللواتي غادرن الضفة بعد الاحتلال, للأمهات اللواتي غادرن المخيمات في لبنان بعد مجزرة صبرا وشاتيلا... للأمهات اللواتي خرجن مرة أخرى وإلى لجوء آخر في مخيم اليرموك.. للأمهات الفلسطينيات الصابرات اللواتي غادرن بغداد بعد سقوطها عام 2003... لم يتحرك العالم وقتها.. تركوها تخط طريقها في الألم والحياة... ولكن أمام الأم الأوكرانية اهتز الضمير والوجدان... وقد وصلت الحدود من دون وثيقة, وكان السكن مؤمناً والإعانة والمبالغ المالية.. وكانت كل الطرق في بولندا مزروعة بالحب, بالمقابل طرقنا كانت مزروعة بالمفخخات والقذائف..
على كل حال أنا لا أشمت في أحد, ولكني مؤمن جداً.. أن الله سيعاقب كل من تورط في جراح الفلسطينيين.. وكل من جعل الليل يمر عليهم بمزيد من البؤس والشقاء.. ومؤمن أيضاً أن الخوف الآن لا يسكن في قلوبنا بقدر ما يسكن قلب إسرائيل... وربما سنشاهد (راحيل) قريباً على المعابر والحدود.. في أوروبا تبحث عن وثيقة للجوء.. فما أذاقونا إياه حتماً سيذوقونه.. وسيكون علقماً على قلوبهم.
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي