فيما يتصاعد التوتّر وتتواصل التنديدات/الضجيج الأميركي/الأوروبي مُرتكزة على حشد عسكري مُتزايد لحلف «الناتو» إزاء ما يحدث في أوكرانيا, تتضارَب التحليلات والتوقّعات وبخاصة تلك التي تحدث عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتّحدة وغيرها من الاتفاقيات والبروتوكولات, التي تمّ «إنضاجها» خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة وتحديداً فيما خصّ موازين القوى الدولية, بعد تفكك الاتّحاد السوفياتي وسيادة منطق الغلبَة والمزاعم بانتصار الرأسمالية بنسختها النيوليبرالية/المُعولَمة على الاشتراكية كخيار «أخير» للبشرية.
يجدر التوقَّف عند ملامح المشهد الدولي قبل العملية الروسية في أوكرانيا، وبخاصّة الأسابيع القليلة التي سبقت يوم 24 الجاري, تحديداً الرفض الأميركي/الناتوي المُطلق لتقديم أيّ ضمانات أمنية, طالبتْ بها روسيا..الولايات المتحدة وحلف الناتو, وما رافق ذلك الرفض المُتغطرس من استهانة حدود الاحتقار لروسيا، ناهيك عن التصريحات والقرارات الاستفزازية المُتمثلة في ضخّ المزيد من الأسلحة الفتّاكة والمعدات اللوجستية لإوكرانيا، إضافة بالطبع إلى عشرات بل مئات الخبراء والمدربين والجواسيس الذين أُُرسلوا إلى كييف، ما شجّع قادة تلك الدولة وبخاصة الجناح القومي المتشدد الذي تسلّم السلطة بعد انقلاب/21 شباط 2014، على رفض كل المحاولات والدعوات الرامية إلى عدم تحويل أوكرانيا إلى ساحة حرب, أرادها الأميركيون والأطالسة ظناً منهم أنهم بذلك يستفزون موسكو ويدفعونها إلى التشدّد, وبالتالي يُورّطونها في حرب مكلفة, قد تكون نسخة أخرى من أفغانستان السوفياتية, وهو طُعم/فخّ دُفِع إليه قادة أوكرانيا, الذين يندبون حظّهم الآن ويرفعون عقيرتهم بالشكوى على قاعدة «يا وحدنا». حيث لم تُسعفهم أطنان الأسلحة الغربية الفتّاكة التي لم يتدربوا عليها بعد، عندما تمّ إرسالها إلى المخازن ظناً منهم أنّ الوقت سيُسعفهم لاستخدامها..
هنا أيضاً يتوجّب التوقف عند رفض كييف – بتحريض أميركي/بريطاني - على مواصلة لعبة شراء الوقت ورفض تطبيق بنود اتفاق مينسك وبروتوكولات رباعية نورماندي, التي نصّت - ضمن أمور أخرى- على إجراء محادثات مُباشرة بين كييف وجمهوريتي دونباس/لوغانسك ودونيستك, للتوصل إلى صيغة حكم ذاتي مُوسّعة تحفظ للإقليم خصائصه الثقافية والعِرقية والمشاركة الفاعلة في القرار على مستوى مؤسسات الدولة الأوكرانية.
زِد على ذلك إصرار حكومة أوكرانيا على المضيّ قدماً لنيل عضوية الناتو, في الوقت ذاته الذي تُواصِل فيه واشنطن كما حزب الحرب داخل الناتو, القول: انّهم لن يُغلقوا الباب المفتوح للناتو امام أيّ دولة ترغب في ذلك.. دون إهمال حقيقة أنّ رئيس الدبلوماسية الأميركية/بلينكن, كما رؤساء ووزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا واظبوا الظهور بمظهر الوسطاء, وإطلاق التصريحات حول اتفاق مينسك إلّا أنّهم لم يُظهروا حزماً أو جديّة في دعوة كييف لبدء حوار كهذا مع جمهوريتي إقليم دونباس. ما أوصل الوضع إلى طريق مسدود بل إلى نقطة اللاعودة, التي أوصلت الجميع إلى المشهد المُعقد والمأزوم الراهن والذي يصعب على واشنطن كما بروكسل بما هي مقر قيادة حلف الناتو وأيضاً مقر الاتحاد الأوروبي, إنكار أنّهم أهدروا الفرصة المتاحة لحلّ سياسي/دبلوماسي لأزمة مُتدحرِجة كهذه، وخصوصاً «ترّكهم» أوكرانيا «وحيدة», أوصلت رئيسها – عديم الخبرة والأفق السياسي - إلى إعلان رغبته الحوار مع موسكو, بهدف وقف النار وخصوصاً - وهذا هو الجوهر- البحث في خيار «حياد» أوكرانيا.
من السابق لأوانه الحديث عن وقف للنار, أو تصوّر أنّ واشنطن/والناتو سيسمحان لزيلينسكي بمفاوضة موسكو أو القبول بحياد أوكرانيا، بل إنّهم سينقلبون عليه فوراً حال أحسّوا أنّ «رجُلهم» في كييف يتحدث بجدِيّة عن «حلّ» كهذا، ناهيك عن الدور التحريضي الذي ينهض به متطرفو كييف من الجناح النازي المعروف بـ«البنديري/ نِسبة الى ستيفن بانديرا زعيم أنصار القومية الأوكرانية إبان الحرب العالمية الثانية, والذي تحالف مع النازيين», وهم أصحاب الخطاب القوي/النازي المتطرف، المصاب برهاب «الروسيافوبيا».
في السطر الأخير.. الحرب الدائرة الآن أياً كانت نتيجتها, ستُكرِّس - ضمن أمور أخرى- معادلات واصطفافات دولية وإقليمية جديدة، ليس فقط في «اندلاع» حرب باردة جديدة، بل وأيضاً ستزيد مصاعب الولايات المتّحدة في مواصلة سياسة مُحاصرة روسيا وتحجيمها, التي انتهجتها منذ عهد بوريس يلتسين وليس فقط منذ سطوع نجم فلاديمير بوتين بداية الألفية الجديدة.
kharroub@jpf.com.jo
الرأي