أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات وفيات جامعات برلمانيات وظائف للأردنيين رياضة أحزاب مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم
مدار الساعة ـ
صراع الألف عام.. الجذور التاريخية للتوتر

مدار الساعة - يعود التاريخ المشترك لكل من روسيا وأوكرانيا إلى دولة «كييف روس»، التي أنشأها السلاف الشرقيون، منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، وكانت مدينة كييف في ذلك الوقت ذات موقع إستراتيجي، على نهر دنيبر الممتد من بحر البلطيق إلى بيزنطة، وبحلول القرن العاشر الميلادي، امتدت سيطرة «كييف روس» على مساحة شاسعة من الأراضي تشكل حاليًا معظم أراضي أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، وقد اشتُق اسم الأخيرتين اعتمادًا على تلك الحقبة.

بلغت «كييف روس» ذروتها في عهد فلاديمير الأول، الذي امتد حكمه بين 798 و1015م، وهو الذي حوّل ديانة المملكة من ديانة الفايكنج الوثنية إلى المسيحية، فصارت «كييف روس» إمارة تتبع الطائفة الأرثوذكسية، وبعد وفاة فلاديمير الأول، تولى الحكم ابنه ياروسلاف الذي يلقب في التاريخ بـ«ياروسلاف الحكيم»، والذي بلغت الإمارة في عهده أقصى اتساع لها، وهو الذي وحد الإمارات الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
لا تزال تلك الفترة التاريخية محل جدل تاريخي بين كل من روسيا وأكرانيا في الوقت الحالي، إذ تدعي كل من الدولتين أنها «الوريث الشرعي» لإمارة «كييف روس»، وفيما تمنح أوكرانيا وسامًا رفيعًا باسم «ياروسلاف الحكيم» لمن يقدم خدمة جليلة للدولة، تطلق موسكو اسمه على فرقاطة روسية تقوم بدوريات في بحر البلطيق، كما تحمل بعض عملات البلدين صورته، وتبذل أوكرانيا اليوم جهودًا كبيرة للعثور على رفاته، أملًا في أن يشكل ذلك انتصارًا تاريخيًا مهمًا في الصراع بين البلدين.
وفي مقال له نُشر في يوليو (تموز) 2021، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الجذور اللغوية والدينية للعقيدة المسيحية الأرثوذكسية، المشتركة بين روسيا وأوكرانيا في العصور الوسطى، وإلى حُكم إمارة «كييف روس»، والتي كان ياروسلاف أحد ملوكها، وفي المقابل فقد ورد اسم ياروسلاف الحكيم في خطاب ذكرى الاستقلال على لسان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، دليلًا على سيادة أوكرانيا واستقلالها.
ومن ثم تعد إمارة «كييف روس» محل الجدل التاريخي بين روسيا وأوكرانيا، فحين تفككت منذ القرن الرابع عشر تباعدت مسارات كل من البلدين، ليبدأ نجم روسيا في السطوع، وفي عام 1547، اتخذ إيفان الرابع لقب القيصر، لتتحول روسيا منذ ذلك الحين من دوقية (إمارة) صغيرة، إلى «قيصرية روسيا الكُبرى»، والتي تحولت إلى «الإمبراطورية الروسية» على يد بطرس الأول عام 1721.
أما أوكرانيا فقد ضعفت وتفككت، لتقع أراضيها تحت نفوذ كل من «القبيلة الذهبية» أولى القبائل المغولية إسلامًا والتي تزعمها بركة خان، ابن عم هولاكو، والتي تفرع عنها لاحقًا ما عُرف بـ «خانية القرم»، ودوقية ليتوانيا الكبرى، ومملكة ليتوانيا، وقد اتحدت المملكتان منذ القرن السادس عشر لتشكل ما عُرف بـ «الكومنولث البولندي الليتواني»، والذي انتهى عام 1764 بوقوع أراضيه تحت سيطرة كل من الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية.
الهيمنة السوفيتية على أوكرانيا حتى نهاية الحرب الباردة
منذ عام 1804 أعيد تنظيم الأراضي الأوكرانية في شكل مقاطعات روسية، كما جرى مساواة النبلاء الأوكران بالنبلاء الروس ليدخلوا رسميًا في الخدمة الإمبراطورية، وبموازاة ذلك جرى حظر اللغة الأوكرانية في المؤسسات والمدارس الأوكرانية، لتحل محلها اللغة الروسية، وقد اعتبرت «الإمبراطورية الروسية» كلًا من أوكرانيا وبيلاروسيا جزءًا أصيلًا منها.
فقد وقع الجزء الأكبر من أوكرانيا الحالية تحت سيطرة «الإمبراطورية الروسية»، لكن الطريق إلى الضم لم يكن مفروشًا بالورود، فقد تصاعدت النزعة الانفصالية الأوكرانية في المقابل، ومن أجل احتواء تلك النزعة الناهضة حاولت روسيا «صهر» الهوية الأوكرانية داخل إطار الثقافة والسياسة الروسيتين.
إذ عمل المفكرون الإمبراطوريون الروس على تطوير مفهوم «الأمة الروسية» المكونة من ثلاثة عناصر: «الروس العظام» وتطلق على أبناء مقاطعات روسيا الحالية، و«الروس الصغار» أو الأوكرانيون، و«الروس البيض» أو البيلاروسيين.
لكن محاولة «الصهر» هذه لم تلق نجاحًا، ففي أكتوبر (تشرين الثاني) 1917، وبعدما فجّر الشيوعيون الروس «الثورة البلشفية» وأطاحوا النظام الإمبراطوري، سعى السياسيون الأوكرانيون لإنشاء دولة خاصة بهم، وأعلنوا الاستقلال عام 1918، لكنه كان استقلالاً قصيرًا، إذ نجح البلاشفة في إعادة السيطرة على أغلب الأراضي الأوكرانية بعد أقل من عامين، لكنهم اضطروا بعد ذلك إلى منح أوكرانيا استقلالًا «شكليًا» باعتبارها دولة منفصلة، ضمن إطار «الاتحاد السوفيتي» الذي جرى إنشاؤه بين عامي 1922 و1923.
واعتُبرت أوكرانيا ثاني دول الاتحاد السوفيتي، وأكثرها أهمية بعد روسيا، من حيث المساحة وعدد السكان وقوة الاقتصاد، ولم تتوقف محاولات موسكو لإخضاع «الأمة الأوكرانية» من بعد ذلك، وكان أبرز تلك المحاولات ما عُرف في التاريخ باسم «هولودومور»، وهي كلمة أوكرانية تعني «القتل بالتجويع»، والتي تشير إلى إجراءات عقابية نفذها الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بحق شعب أوكرانيا في الفترة بين عامي 1932 و1933، والتي تعد أحد أكبر المجاعات في تاريخ البشرية.
فحين فرض ستالين سياسة استبدال المزارع المملوكة والمُدارة بشكل فردي في كافة أنحاء الاتحاد السوفيتي بمزارع جماعية تديرها الدولة، كان المزارعون الأوكران الأكثر تمسكًا بأرضهم، وقاوموا إجراءات ستالين، ليتعرض الكثيرون منهم للترحيل والسجن، وأصدرت السلطات السوفيتية أمرًا بجمع المحاصيل بالقوة، وهو ما عرّض البلاد لمجاعة واسعة راح ضحيتها أكثر حوالي 4 ملايين شخص، أي حوالي 13% من سكان أوكرانيا في ذلك الوقت.
وخلال الحرب العالمية الثانية، احتلت ألمانيا النازية أوكرانيا حتى عام 1944، وقُتل نحو 5 ملايين أوكراني في القتال ضد النازيين، ومع نهاية الحرب قام ستالين بترحيل نحو 200 ألف أوكراني من «تتار القرم» إلى سيبيريا وآسيا الوسطى بتهمة التعاون مع النازيين.
لكن في عام 1954، و«من أجل تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين»، قام الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بضم شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا «هدية» وكان يقطنها أغلبية من الروس، مع أقلية من الأوكرانيين والتتار، في العام نفسه كانت روسيا قد قضت على تمرد مسلح قاده قوميون أوكران شكلوا ما عُرف بـ«الجيش الثوري الأوكراني».
في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وعلى إثر إجراءات إعادة الهيكلة التي اتخذها الرئيس ميخائيل جورباتشوف، تفكك الاتحاد السوفيتي وتمخض عنه 15 دولة مستقلة، جاء ذلك بعد أسبوع واحد على موافقة الأوكرانيين في استفتاء شعبي على مغادرة بلادهم للاتحاد، والحصول على الاستقلال الكامل، وكانت نتيجة الاستفتاء 90% لصالح الاستقلال.
لم يكن فك الارتباط بين البلدين سهلًا على الإطلاق، كانت أوكرانيا، وبصفتها عضوًا في الاتحاد السوفيتي سابقًا، لا تزال تحتفظ بنحو ثلث القوة النووية السوفيتية على أراضيها، كانت أوكرانيا حينئذ تحتوى على ثالث أكبر مخزون للأسلحة النووية حول العالم: مئات الصواريخ الباليستية، وآلاف الرؤوس الحربية، وبعد الكثير من المفاوضات والضمانات الأمنية من قبل الولايات المتحدة وروسيا، وافقت أوكرانيا على تدمير كميات كبيرة من الأسلحة النووية، فيما نُقل الباقي إلى روسيا.
حاولت روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الإبقاء على أوكرانيا في دائرة نفوذها السياسي، عبر تأسيس ما عُرف بـ«رابطة الدول المستقلة»، التي تضم الجمهوريات السوفيتية السابقة، ولكنها كانت غير ذات جدوى.
كما حاولت الهيمنة على كييف عبر العلاقات الاقتصادية من جهة إمدادها بالغاز الروسي، لكن تلك المحاولات لم تُثن الأوكران عن التوجه غربًا، إذ أعلنت الحكومة الأوكرانية في مايو (أيار) 2002، إطلاق محادثات رسمية تهدف إلى الانخراط في حلف «الناتو»، وهي المحاولات التي توقفت بضغط من روسيا، عقب وصول الرئيس الأوكراني المقرب من روسيا فيكتور يانوكوفيتش إلى الرئاسة في عام 2010.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، اندلعت احتجاجات شعبية واسعة النطاق في أوكرانيا، بعدما قرر الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش الإحجام عن توقيع اتفاقية للتقارب مع الاتحاد الأوروبي، ورأى المحتجون وقوى المعارضة في خطوة الرئيس انصياعًا لروسيا، وآلت الاحتجاجات في النهاية إلى الإطاحة بيانوكوفيتش، الذي هرب إلى روسيا، ليجري تنصيب حكومة قريبة من الغرب.
لم تر روسيا في «الثورة الأوكرانية» أكثر من خديعة غربية تهدف إلى إيجاد موطئ قدم غربي على حدودها، وتهديدًا لمجالها الحيوي، ووصفت المحتجين في كييف بـ«الفاشيين»، واعتبرت أنهم امتداد للقوميين الأوكران الذين تحالفوا مع النازية إبان الحرب العالمية الثانية، وأمام ما اعتبرته موسكو «تجاوزًا للخطوط الحمراء» المتعارف عليها منذ انتهاء الحرب الباردة، كان رد بوتين قاسيًا.
«عاد لينتقم».. هكذا يعيد بوتين فرض خطوطه الحمراء
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة جورج بوش الأب وعودًا قاطعة للروس بعدم توسع الناتو في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد الأوروبي السابقة، لكن الغرب لم يحافظ على هذا الوعد قط.
فعلى مدار ثلاثة عقود، توسع حلف الناتو في كافة دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفيتي السابقة في أوروبا تقريبًا، وشمل ذلك رومانيا وبلغاريا وبولندا ودول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) وبالتالي لم يعد هناك ما يفصل بين روسيا ودول الناتو الأوروبية سوى أوكرانيا وبيلاروسيا.
لذلك، كان من الصعب على موسكو التنازل عن أوكرانيا بسهولة، وإلا فيمكنها أن تجد صواريخ الناتو منصوبة على بعد 200 كم فقط من سانت بطرسبرج، فسحبت روسيا «هديتها» بعد «الثورة الأوكرانية»، وأرسل بوتين قوات عسكرية سيطرت بشكل خاطف على شبه جزيرة القرم.
وجرى عزل القوات الأوكرانية وحصارها في أماكنها، وحوصر الأسطول الأوكراني في قاعدته الرئيسية في شبه الجزيرة، ثم سيطرت القوات الروسية على البنية التحتية الحيوية في شبه الجزيرة دون معارضة، ونصبت سلطات موالية لموسكو في المنطقة، قبل أن تنظم استفتاء قضى بإعادة المنطقة إلى السيادة الروسية.
لم يكن ضم القرم كافيًا بالنسبة لروسيا، إذ حركت موسكو مسلحين موالين لها في المناطق الشرقية التي تتركز بها أقليات ناطقة بالروسية، خاصة في منطقتي دونيتسك ولوهانسك بإقليم دونباس في المناطق التاخمة للحدود مع روسيا، وأقاموا كمائن دموية للجيش الأوكراني.
وثمة العديد من الأدلة حول تدخل العسكرية الروسية بشكل مباشر في المعارك الدائرة دعمًا للانفصاليين ضد الجيش الأوكراني، وفي السابع من أبريل (نيسان) 2014 أعلن الانفصاليون قيام «جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين»، ويسعون منذ ذلك الحين للاتحاد مع روسيا أسوة بالقرم.
وبرغم محاولات نزع فتيل الأزمة بين أطراف الصراع، والتي رعتها بالأساس ألمانيا وفرنسا، وأسفرت عن توقيع بروتوكول «مينسك 1» عام 2014، و«مينسك 2» عام 2015، والتي نصت على وقف إطلاق النار، فإن الصراع في المنطقة ما لبث أن تجدد في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ويبدو أن روسيا استغلت استخدام أوكرانيا طائرات «بيرقدار» المسيرة بدون طيار، والتي اشترتها كييف من تركيا، لتتهم أوكرانيا بانتهاك اتفاقي «مينسك».
وخلال الأسابيع اللاحقة، أطل شبح الحرب بين البلدين برأسه، بعد أن حشدت موسكو 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، كما نُقلت قوة روسية معتبرة الحجم ومدعومة بأحدث الطائرات المقاتلة إلى بيلاروسيا، المحاذية لأوكرانيا في الغرب، بحجة إجراء مناورات مشتركة.
وفي حين يؤكد الغرب نية موسكو الإقدام على عمل عسكري ضد أوكرانيا، وهو ما ترفضه روسيا، فإن موسكو تصر على أنها لم تعد تثق بوعود وتطمينات الغرب، وتطالب بالعديد من المطالب الأمنية أبرزها امتناع «الناتو» عن ضم أوكرانيا في المستقبل، وهو المطلب لذي ترفضه القوى الغربية حتى الآن، ليبقى الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات المرعبة.
مدار الساعة ـ