أخبار الأردن اقتصاديات دوليات مغاربيات خليجيات وفيات جامعات برلمانيات وظائف للأردنيين رياضة أحزاب تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس مناسبات جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم
مدار الساعة ـ
ديفيد هيرست: أقطاب العالم يعيدون رسم

مدار الساعة - ديفيد هيرست

يغير الغزو الروسي لأوكرانيا مجرى التاريخ، ولكن ليس بالطريقة التي تفهمها القوى الغربية.
فنحن نشهد نهاية ما لا يقل عن ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية والغربية على شؤون العالم العسكرية والاقتصادية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إن الذي يتشكل بديلاً عن ذلك هو عالم تديره القوى العظمى.
إلى جانب الولايات المتحدة تبرز كتلة واحدة – كتلة القوة الأوروآسيوية التي تقف الصين في طرف منها وتقف روسيا في طرفها الآخر، وما بين الطرفين توجد أضخم كتلة أرضية في العالم، بما فيها من موارد غير محدودة من الطاقة والقوى البشرية، والقوة العسكرية والسيبرانية والذكاء الصناعي.
وهذا بمثابة إعادة ترتيب هائلة للأثاث على سطح سفينة بحجم التايتانيك بينما تغرق الكتل الأرضية حول العالم بهدوء في البحر، وإلى أن يتم رسم الخطوط الحمراء الجديدة، فلن يكون العالم أكثر استقراراً مما كان عليه.
كثيرة هي المؤشرات على انهيار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو النظام الذي أطلقت عليه الكثير من الأسماء، مثل التدخلية الليبرالية، وتحالفات الراغبين، والنظام المحكوم بقواعد. شهد العام الماضي سقوط كابول بأيدي الطالبان، والمحادثات المطولة مع إيران في فيينا والذي يتوقع أن تبرز منها طهران أكبر الفائزين، وها هو بوتين الآن يغزو أوكرانيا.
وما يمكن جداً أن يأتي من بعد هو قيام الصين بالاستيلاء على تايوان. وكل هذه الأمور الأربعة يرتبط بعضها ببعض.
أخذ على حين غرة
كل واحد من هذه الأحداث أخذ واشنطن على حين غرة. لم تكن لدى الولايات المتحدة أدنى فكرة كم ستكون سرعة انهيار الدولة في أفغانستان بمجرد الإعلان عن الانسحاب. ومن بين الدول المجاورة، لم يكن مسلحاً بالمعلومات الاستخباراتية الصحيحة سوى الحرس الثوري الإيراني، الذي كان متواجداً مع الطالبان على الأرض.
بنفس الشكل اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب في كل الجبهات – وخاصة فيما يتعلق بالعقوبات – أمام صمود المفاوضين الإيرانيين في فيينا، كذلك لم تكن على أهبة الاستعداد للتعامل مع حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا ناهيك عن أن تكون مستعدة لوقوع الغزو نفسه.
كل واحد من هذه الأحداث أجبر صناع السياسة على التراجع بلا ترو، وهذا ما لا جدوى من ورائه.
خذ على سبيل المثال أثر الحصار المالي الغربي الذي يوشك أن يفرض على روسيا، رغم أنها على الأغلب ستستمر في تزويد أوروبا بالغاز، على حقول النفط الإيرانية. كل ما سيحدث أنها سترفع لهم سعر النفط.
وما من شك في أن ذلك سيشكل فرصة سانحة أمام إيران إذا ما أخذنا بالاعتبار احتياجات أوروبا المتعطشة للنفط. فهل كانت تلك هي النتيجة المرجوة من أربعة عقود من العقوبات التي وصلت أوجها في عهد دونالد ترامب بانتهاج سياسة "الضغط الأقصى"؟ حتى وقت قريب جداً كانت مراكز البحث والتفكير التابعة للمحافظين الجدد في واشنطن تعتقد بأن تغيير النظام في طهران أمر وارد.
اعتبر هؤلاء الزعماء أنفسهم سادة العالم، إلا أن قراراتهم الاستراتيجية لا منطق فيها.
من وجهة نظر تلك البلدان المستفيدة من وجود النظام الدولي الأمريكي، هناك صفتان مميزتان لسلوك واشنطن يمكن اعتبارهما مزعجتين، أما الأولى فهي انعدام القدرة على رؤية العالم إلا من خلال عيونها – وكثير من الناس في الشرق الأوسط يعتبرون تلك نظرة استعمارية. وأما الثانية فهي انعدام المرونة والإصرار على انتهاج ما تم تبنيه من مسلك دون أي انعطاف.
أمريكا هي التي قامت منفردة بتحديد مواصفات السلوك الديمقراطي ثم أصدرت إعفاءات للحكام المستبدين الموالين للغرب سامحة لهم بتجاهل تلك المواصفات. وبذلك غدت حقوق الإنسان أو السياسة الخارجية التي تقوم على القيم أمراً انتقائياً جداً – تشهر في وجه بلد مثل فنزويلا ولكن ليس في وجه بلدان مثل المملكة العربية السعودية ومصر.
وكذلك كان طوني بلير وجورج بوش هما من قررا غزو العراق في اللقاء الذي جمعهما في كروفورد قبل سنة كاملة من وقوع الغزو أو قبل دخول مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة. وكان بوش هو أول من مزق المعاهدات الدولية، وأطلق على معاهدة منع انتشار الصواريخ البالستية لعام 1972 عبارة "عفا عليها الزمن". وكان بيل كلينتون هو أول من أعاد رسم حدود دولة أوروبية أثناء حرب كوسوفو مع صربيا.
اعتبر هؤلاء الزعماء أنفسهم سادة العالم، إلا أن قراراتهم الاستراتيجية لا منطق فيها.
يبدو أن الجميع ينسى، بما في ذلك كير ستارمر الذي هدد بمعاقبة أحد عشر نائباً عمالياً من أعضاء البرلمان لأنهم أرادوا توقيع بيان يطالب بوقف الحرب، أن طوني بلير طالب العالم بنسيان أوكرانيا في عام 2014 عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم والتركيز على الحرب ضد الإسلام الراديكالي.
منافس فاشل
لم تعتبر واشنطن روسيا عدواً، بل والأسوأ من ذلك، من وجهة نظر بوتين، أنها اعتبرت روسيا منافساً فاشلاً. وعلى مدى جل العقود الثلاثة الماضية لم تفتأ واشنطن تقول لموسكو: "نسمع ما تقولون ولكننا سنعمل ما يبدو لنا على كل حال."
قائمة التدخلات الغربية اللانهائية، والتي كانت في آخر المطاف تؤول إلى الفشل، والتي لم يكن لدى روسيا أو الصين ما تفعله لوقفها، كان لها أثر تراكمي على النفسية الروسية والصينية. وبينما ملأت روسيا خزائنها بدولارات النفط بدأت أيضاً بإعادة بناء قوتها العسكرية. حينذاك اعتبر الجنرالات البريطانيون والأمريكان ذلك نكتة، ولكن يبدو أنهم تعجلوا الحكم.
ولكم كثرت الحكايات المتداولة حول عقم الجيش الروسي، مثل القول إن الطيارين الروس لا يمضون سوى ساعات معدودة من الطيران في الشهر الواحد لأنه لم يكن أحد يملك دفع تكلفة الوقود، وأن البحارة الذين كانوا في زيارات متبادلة ينهمكون في التبضع وينفقون على مشترياتهم مبالغ المصروف اليومي التي يخصصها لهم البلد المضيف، وأن كل سفينة تبحر لابد من أن ترافقها سفينة أخرى تحسباً من إصابتها بأعطال تعيقها، وأخيراً أن روسيا لا تملك القدرة على إرسال قوة استطلاعية.
تغير ذلك التقييم سريعاً عندما بدأ بوتين تدخله في سوريا، وهو التدخل الذي كان حاسماً في الإبقاء على الأسد في السلطة.
طوال ذلك الوقت كان بوتين يضمر في ذهنه نوعاً من رد الفعل. وكثيراً ما كان يساء تفسير ذلك باعتباره محاولة من قبل ضابط صغير سابق في المخابرات الروسية إعادة بناء الاتحاد السوفياتي. لا، ليس الأمر كذلك، بل إن روسيا الفيدرالية التي يحكمها بوتين رأسمالية حتى النخاع، والرجل الذي يقف على رأسها أغنى رجل في التاريخ الروسي – أغنى حتى من القياصرة أنفسهم.
صحيح أن الزعماء السوفيات كانوا يتمتعون بامتيازات كبيرة ولكنهم بالمقارنة لم يكونوا أثرياء.
يكفيك أن تتجول في المناطق التي كانت متميزة في السابق داخل الغابات المحيطة بموسكو لترى بأم عينيك الدليل على ذلك. كانت منتجعات المسؤولين في الحقبة السوفياتية متواضعة، عبارة عن أكواخ خشبية متهالكة، بطلائها الأخضر المتفتت، مقارنة بالأكواخ متعددة الأدوار التي يملكها الأثرياء الروس حالياً. حسبك أن الطريق المؤدية إلى هذه المستوطنات تنتشر فيها الدعايات التي تعلن عن بيع سيارات اللامبورغيني والشقق التي تصلح لإيواء العشيقات.
القومية الروسية
بوتين أوليغارك وليس سكرتيراً عاماً. وبينما كان الاتحاد السوفياتي قوة عالمية فإن روسيا الفيدرالية في أحسن أحوالها قوة إقليمية. والأيديولوجيا التي حفزت بوتين على غزو بلد لا يعتقد بوجوده أصلاً لا تنبع مما كان يفعله البلشفيون بقدر ما تنبع من الأرثوذكسية الروسية والقومية الروسية.
لم يكن بوتين في بداياته معاديا للغرب، بل استغرقه ذلك سبع سنوات طوال، ما بين بروزه كرئيس للوزراء في عام 2000 وإلقائه خطابه الشهير في مؤتمر ميونيخ الأمني في عام 2007. ولقد حاول طوال ذلك الوقت التواصل مع الغرب بل وحتى الانضمام إلى الناتو، ولكنه كان يقابل بالصد المرة تلو الأخرى. وكذلك كان الموقف من أفكاره حول التحالف الأمني الأوروبي، لأن ذلك أيضاً فسر خطأ على أنه محاولة من قبل روسيا للسيطرة على السياسات والحريات في دول شرق أوروبا الخانعة.
نقطة التحول في رحلته من أوليغارك موال للغرب إلى مستبد قومي روسي كانت سقوط القذافي في ليبيا، ليس لأنه كان محباً للدكتاتور الليبي وإنما لأن الأمر يمس المصالح النفطية والعسكرية الروسية.
امتنعت روسيا عن التصويت على قرار لمجلس الأمن الدولي يسمح باستخدام القوة في ليبيا، وهو القرار الذي استحق بسببه رئيس الوزراء حينذاك، ديمتري ميدفيدف، سخط روسيا، عندما تبين أن النتيجة التي سيفضي إليها التدخل في ليبيا هي تغيير النظام. حينها ظهر مقطع فيديو روسي مجهول المصدر ولكن بجودة عالية يندد بميدفيدف باعتباره خائناً – مستخدماً نفس الألفاظ التي تستخدم اليوم لوصف بطلي الإصلاح الروسي الأخيرين من وجهة النظر الغربية ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.
حدث ليبيا في عام 2011 وليس غزو العراق في عام 2003 هو الذي حسم قرار التدخل الروسي في سوريا في عام 2015.
ما الذي سيحدث الآن؟
أول تغيير رئيسي سيطرأ نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا هو أن روسيا ستغدو الآن ضالعة في نفس الممارسات التي كانت تتهم بها الولايات المتحدة – تغيير النظام.
بعد أن أدانت على مدى عقود التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا باعتبارها تدخلات لتغيير الأنظمة، بل واعتبار الربيع العربي مؤامرة من نسج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، تمارس روسيا الآن نفس العمل في أوكرانيا.
بل راحت تستخدم نفس المنطق الذي استخدمته واشنطن طوال جل الثلاثين عاماً الماضية. فهي تتوغل في أوكرانيا لأن بوسعها أن تفعل ذلك، ولأنها تعلم أن الناتو لا يمكنه التحرك ضدها دون المخاطرة بتفجير حرب نووية.
في الشهر الماضي قال ديمتري ترينين، الخبير المخضرم في الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية الروسية: "لربما كان مشروع روسي منفصل قيد التشكل حالياً، وهو مشروع لا يتوقع الاندماج في عالم يستمر الغرب في لعب دور قيادي فيه، حتى وإن لم يكن دوراً مهيمناً. نتيجة لما قد يتبع ذلك من قطيعة بينها وبين الغرب فقد تتجه روسيا نحو إقامة علاقات أوثق مع الدول المهمة غير الغربية، وعلى رأسها الصين، وكذلك إيران، إضافة إلى تعزيز العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة داخل العالم الغربي مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا. بموجب هذا السيناريو قد تنهج روسيا سياسة خارجية أكثر نشاطاً، وقد تبدأ موسكو في فعل نفس الشيء الذي طالما اتهمها الغرب بالقيام به. ضمن هذا السيناريو سوف تهدف روسيا إلى إقامة دائرة نفوذ خاصة بها وستسعى كذلك إلى ممارسة الحق في استخدام القوة لإسقاط من لا ترغب في وجوده من الأنظمة."
في نهاية المطاف لا يوجد ما يعذر شن حرب أخرى. لا يبرر أي من ذلك أو يعذر الدفع بالدبابات إلى داخل أوكرانيا.
كنت موجوداً في غروزني في عام 1994 عندما حاولت الدبابات الروسية الدخول إلى المدينة، فتصدى لها الشيشان بمقاومة شرسة وتمكنوا من ردعها مؤقتاً. ولكن ما لبث بوتين أن غزا المدينة وسحق المقاومة تماماً في عام 2000، ولم يتورع حينها عن تدمير المباني عن بكرة أبيها وتنصيب رئيس مضطرب عقلياً على الجمهورية.
قامت زميلتي الروسية أنا بوليتكوفسكايا بتدوين يوميات الحرب الثانية في الشيشان، وعندما سألتها لماذا خاطرت بحياتها للكشف عما وصفته بجرائم الحرب الروسية قالت إنها كانت تقاتل من أجل روح روسيا. ما لبثت أن اغتالها قاتل محترف في مدخل البناية التي كانت تقطن إحدى شققها.
ليس لدي أدنى فكرة عما إذا كان الأوكرانيون سيقاومون كما قاوم الشيشان أو إلى أي مدى سيذهب الجيش الروسي في قتاله. ولكني أخمن بأنهم كلما تكبدوا خسائر بشرية أكثر كلما زاد استخدام الروس للمدفعية والضربات الجوية ضد المدنيين في الأماكن المكتظة بالسكان.
قد يكون مهولاً سفك الدماء الذي سنشهده خلال الأيام والأسابيع القادمة. سرعان ما يتلاشى في الحرب مفهوم "الضربات المحكمة"، ناهيك عن أن الضربات المحكمة بأيدي الروس تعني استخدام القنابل الفراغية كما فعلوا في غروزني، فسحبت الهواء من الميدان الرئيسي في وسط المدينة.
المأساة هي أنه بينما تعتبر روسيا أن الحرب الباردة قد انتهت فإننا في الغرب نستمر في خوض معاركها. وها قد أعدنا خلق العدو الذي ظننا أننا تركناه من خلفنا.
لم يكن من الضروري نشوب هذه الحرب، وكان بالإمكان تجنب خلاف بوتين مع الناتو، وكان بالإمكان الاتفاق على كيانات أمنية جديدة مع موسكو تحفظ استقلال وسيادة الدول، والتي بدورها تحترم حقوق الإنسان وولاءات الناطقين بالروسية. ليس هذا علم الصواريخ، ولقد تم إنجازه في أماكن أخرى.
ولكنه كان يتطلب مكوناً أساسياً لطالما كان مفقوداً في السلوك الغربي تجاه روسيا – التواضع. عندما انهار الاتحاد السوفياتي انطلق الفائز بكل شيء، ولم يشعر بالحاجة لأن يستمع. ما كان ينبغي للناتو أن يتوسع شرقاً.
في أقل تقدير كان ينبغي أن يشرك قوات روسية في هياكله وأن يصلحها. كان من شأن ذلك أن يقضي على التناقض المركزي في الإصلاح، والذي يقول إن ما هو جيد للغرب فهو سيء لروسيا. بدلاً من ذلك لم يكن هناك بناء للدولة، فقط عملية هدم. ترك الأمر لشخص مثل بوتين حتى يعيد بناء القوة العسكرية الروسية، بكل ما لذلك من تداعيات اليوم.
والآن يعكس بوتين ذلك المنطق حين يقول إن ما هو جيد لروسيا فهو سيء للناتو. فقط المقاومة التي سيبذلها المقاتلون الأوكرانيون من شأنها أن تقنعه بأن تكلفة الاستمرار في هذا الغزو ستكون فادحة جداً. ولكن في مواجهة الأعداد الضخمة التي ستغزوهم، فإن الاحتمال الأكبر هو أنهم لن يتمكنوا من الصمود طويلاً، وقد تخلى عنهم الناتو وتركهم لمصيرهم بعد أن تصدر لرفع راية الحفاظ على سلامة الأراضي الأوكرانية دون أن يكون قادراً على عمل أي شيء للدفاع عنها.
والمأساة هي أنه بينما تعتبر روسيا أن الحرب الباردة قد انتهت فإننا في الغرب نستمر في خوض معاركها. وها قد أعدنا خلق العدو الذي ظننا أننا تركناه من خلفنا.
المصدر: ميدل إيست آي
ترجمة وتحرير: نون بوست
مدار الساعة ـ