مدار الساعة - بعد أن انقشع دخان الحرب العالمية الثانية، بدأ الحلفاء الغربيون والاتحاد السوفييتي يتحركون حول بعضهم البعض بشكلٍ مثيرٍ للريبة إبان تنافسهم سراً على النفوذ. وبينما كانت تنشأ أنظمة مؤيدة لكل منها من بين الأنقاض، أدرك جميع قادة الدول الواقعة غرب برلين أنّ مقاومة الغزو السوفييتي الآتي لا محالة، مهمةٌ مستحيلة. دمرت الحرب جيوشهم، التي سيستغرق إعادة بنائها سنوات طويلة؛ فكانت عملية غلاديو.
وقتها تساءل القادة الغربيون: ماذا لو أُعيد إنشاء شبكات المقاومة التي حاربت النازيين في جميع أنحاء القارة، ولكن لمقاومة السوفييت هذه المرة؟
أي بمعنى آخر، إنشاء جيوش سرية- عُرفت لاحقاً بجيش الناتو السري– مجُهزة بتمويلٍ غامض أو غير قانوني بعيداً عن أعين الجمهور، وبدون مساءلة، تكون على استعدادٍ للتصدي للغزو السوفييتي الذي اعتبره كثيرون حتمياً.
لكن الخطة التي بدأت كإجراء احترازي غربي عبر إنشاء شبكات وطنية تعيش في الخفاء بانتظار اليوم الموعود، حولت عناصرها إلى متخصصين في تنفيذ حملات قتل وإرهاب سياسي ضد مواطنيهم، بدلاً من مقاومة الغزو السوفييتي.
هذه هي قصة عملية غلاديو، البرنامج العسكري المشبوه الذي مضى إلى أسوأ نهاية ببصمات وكالة الاستخبارات المركزية CIA.
الأيام الأولى لعملية غلاديو ما بعد الحرب
يرجع أصل عملية غلاديو، كغيرها من جهود الحرب الباردة، إلى الحرب العالمية الثانية. فحين بلغ تهديد الغزو الألماني ذروته عام 1940، كوّنت الحكومة البريطانية شبكةً من الوحدات المُساعِدة، وهي قوات حرب عصابات رهن الاستعداد في انتظار تنفيذ مهمة إحباط القوات النازية بكل الوسائل الممكنة. لكن تلك الوحدات لم تُشارك في أي معارك، وتم تفكيكها بهدوء قبل نهاية الحرب.
لكن المبدأ الذي قامت عليه فكرة الوحدات المساعدة ظل قائماً. وبدلاً من انتظار اندلاع الحرب لتنظيم شبكات المقاومة؛ تم تكوين شبكات المقاومة مسبقاً، وتدريب أعضائها على يد قدامى المحاربين من منظمة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية، وتسليحهم من مخابئ الأسلحة المنتشرة في جميع أنحاء بلدانهم.
وبحلول أوائل الخمسينيات، كانت هناك شبكات سرية قائمة في ألمانيا، وبلجيكا، وهولندا، وفرنسا، والدنمارك، والنرويج، وتركيا، وإيطاليا، مستعدة للتحرك في أي لحظة.
تلقّت تلك الشبكات الدعم من مختلف وكالات الاستخبارات الأوروبية، مثل جهاز الاستخبارات البريطاني MI6 ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وكانت تتبع تنظيمياً لحلف الناتو، رغم عدم ارتباطها بالحلف رسمياً.
كان لكل شبكةٍ اسمها الرمزي الخاص، لكن اسم الجيش السري الموجود في إيطاليا تحوّل إلى الاسم الجماعي الذي باتت تُعرف به جميع تلك الشبكات معاً: غلاديو، تيمُّناً باسم السيف الروماني الذي كانت تحمله الفيالق الرومانية ومصارعو الغلادياتور.
دعم وكالة الاستخبارات المركزية
كانت الشبكات الخفية هي النوع المفضل لرئيس المخابرات الأمريكية ألن دالس. وباعتباره حليفاً لمجرم الحرب النازي راينهارد حيهلين وصاحب دورٍ محوري في اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا؛ كان دالس من أشد المعادين للشيوعية لدرجة أنّه قرر عام 1942 أنّ الولايات المتحدة "تُحارب العدو الخطأ".
أتاح المناخ السياسي في فترة ما بعد الحرب المجال لأمثال دالس، من المقتنعين بأهمية التحالف مع أي شخص يُعارض الاتحاد السوفييتي.
وفي إيطاليا تحديداً، تم تعيين فاشيين سابقين ومتشددين يمينيين في المناصب الاستخباراتية والسياسية المهمة، إلى جانب تكوين روابط وثيقة بالمافيا المناهضة للشيوعية، حسب ما نشره موقع Grey Dynamics.
وتُعتبر المافيا "أحد العناصر التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية للسيطرة على إيطاليا، بفضل طبيعتها المناهضة للشيوعية"، على حد تعبير أحد عملاء وكالة الاستخبارات.
وكان حزب الديمقراطية المسيحية الإيطالي، الحليف السياسي المفضل لوكالة الاستخبارات المركزية في إيطاليا، يُرحب بمساعدات الفاشيين الجُدد والجماعات الإجرامية؛ لشعوره بأنّ "هناك ما يدعو إلى الخوف في حال السماح باستمرار اتجاه الأصوات الانتخابية الذي ظهر عامي 1948 و1953… حيث ستتحول الأصوات الشيوعية والاشتراكية مُجتمعة إلى أكبر قوةٍ سياسية في إيطاليا".
تنشيط عملية غلاديو
نشرت أول قوات عملية غلاديو عام 1963 من أجل الهجوم على أنصار الحزب الاشتراكي الإيطالي الذي حصد عدة مناصب وزارية في الانتخابات الأخيرة. وخلال الفترة اللاحقة التي عُرِفَت باسم "سنوات الرصاص"؛ يُعتقد أنّ عملاء غلاديو تورّطوا في أعدادٍ لا تُحصى من صفقات المخدرات، والهجمات العنيفة على اليساريين، والاغتيالات.
ورغم أن مهمة منظمة غلاديو فحص المجندين المحتملين، فإنها كانت تستقبل بين صفوفها عادةً أي جماعةٍ إجرامية أو يمينية، طالما أعلن أفرادها مُعارضتهم للشيوعية، حسب أرشيف صحيفة New York Times.
وفي الوقت ذاته تم تأسيس منظمة الألوية الحمراء المناهضة بتمويلٍ شيوعي. شن أولئك المسلحون حملات من السطو على البنوك، وأعمال التخريب، وعمليات الاختطاف بغرض زعزعة استقرار الدولة الإيطالية.
عملاء غلاديو انتهزوا فرصة اعتماد الألوية الحمراء على التكتيكات التخريبية، وفي 31 مايو/أيار عام 1972، استجاب 5 أفراد من قوات الدرك الوطني (كارابينييري) لمكالمةٍ هاتفية مجهولة تُبلغ عن وجود سيارةٍ مهجورة على أطراف بلدة قرب الحدود مع يوغسلافيا. وحين فتحوا غطاء المحرك؛ وقع انفجارٌ هائل قتل 3 منهم.
لكن مكالمةً هاتفية ثانية تسبّبت في توريط الإرهابيين اليساريين، ودفعت قوات الأمن إلى شنّ حملة قمعٍ أسفرت عن اعتقال 200 شخص.
ورغم فشل المحكمة في إدانة أيٍّ من أفراد الألوية الحمراء بارتكاب الهجوم على مدار أكثر من 10 سنوات، بقي الظن الشائع بأنهم كانوا المسؤولين عن الهجوم.
كشف الستار عن حقيقة غلاديو
لم يُشكّك أحدٌ في الرواية الرسمية عن مذبحة بيتيانو حتى عام 1984، حين لاحظ القاضي فيليس كاسون عدة تناقضات في سجلات المحكمة. إذ لم يجرِ مثلاً تحقيقٌ من الشرطة في موقع الهجوم. فضلاً عن أنّ المتفجرات المستخدمة في العملية كانت من نوع سي فور، وهو النوع المتاح فقط لدى أعضاء عملية غلاديو وحلف الناتو.
كما كشفت التحقيقات الإضافية أنّ العقل المدبر للخطة كان فينسينزو فينسيغيرا من الفاشيين الجُدد، بينما حصلوا على السي فور من مكب أسلحة غلاديو في مدينة فيرونا.
وقد اعترف فينسيغيرا أمام كاسون بأنّ منظمته "أوردين نوفو" تآمرت مع المخابرات العسكرية الإيطالية لشنّ الهجوم، بهدف إجبار الحكومة على إعلان حالة الطوارئ واتخاذ سياسات أكثر استبدادية.
وبعد التحقيق في أسباب سنوات الرصاص حينها، أكّد رئيس الوزراء الإيطالي جوليو أندريوتي، ما اكتشفه كاسون حين اعترف بوجود عملية غلاديو أمام مجلس الشيوخ الإيطالي في العام 1990، حسب أرشيف صحيفة Washington Post.
وقد أثار هذا الاعتراف صدمةً في مختلف أرجاء أوروبا مع الكشف عن وجود العديد من المنظمات الموازية. وبين ليلةٍ وضُحاها، سقط القناع عن "أكثر عملية طموحة وسرية في أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية الثانية"، رغم أنّ الاتحاد السوفييتي الذي انطلقت من أجله العملية بدأ في الانهيار.
نهاية عملية غلاديو
خلال الشهور التي أعقبت الاعتراف بوجود عملية غلاديو، تم حل غالبية الشبكات المُكوِّنة للعملية في صمت. وفي بعض الدول مثل فرنسا، كانت شبكة غلاديو خاملةً منذ سنوات، لذا لم يتطلب تفكيكها سوى بعض المعاملات الورقية.
وحتى في إيطاليا، لم يتبقَّ من مخابئ الأسلحة الـ139 سوى 12 فقط، وهذا قبل 20 عاماً من اعتراف أندريوتي أمام مجلس الشيوخ.
ظهرت العديد من نظريات المؤامرة بغلاديو نتيجة السرية الشديدة للبرنامج، ولم يتم تأكيدها أو دحضها. ونشر الصحفي الأمريكي بول ويليامز، العام 2015، كتاباً اسمه "الحلف غير المقدس بين الفاتيكان والمخابرات الأمريكية والمافيا".
قدم ويليامز أدلة تشير إلى وجود خلايا في العديد من الدول الأوروبية تتكون من 5 آلاف إلى 15 ألفاً من النشطاء العسكريين. ووفقاً لبحث المؤلف، جاء التمويل الأولي لجيوش حرب العصابات هذه من بيع مخزونات كبيرة من المورفين SS تم تهريبها من ألمانيا وإيطاليا، وأوراق نقدية بريطانية مزيفة تم إنتاجها في معسكرات الاعتقال بواسطة مزورين مهرة.
وذكر في كتابه أن هذه الوحدات استُخدمت لإحباط صعود الحركات اليسارية بأمريكا الجنوبية والدول المتمركزة في الناتو عن طريق الهجمات الإرهابية.
كما قال إن بابا روما الحالي فرانسيس الأول، كان على علاقة وثيقة بأفراد عملية كوندور في أمريكا اللاتينية- المتفرعة من عملية غلاديو- والتي أوصلته لمنصبه الحالي.
قد لا تُعرف أبداً حقيقة عملية غلاديو أو ما فعلته؛ لعدم رغبة العديد من حكومات أوروبا في لفت اهتمام العامة من جديد إلى البرنامج، كما أنّ العديد من قادتها ماتوا أو دخلوا السجن أو لا يُعرف لهم أثر.
لكن المؤكد هو أنّ الجهود التي كان يُفترض بها مواصلة جهود جماعات المقاومة المحمودة في الحرب العالمية الثانية قد تحوّرت إلى شيءٍ أكثر شراً خلال أحلك سنوات الحرب الباردة.