مدار الساعة -أحمد مولانا
مشهد الاجتياح الروسي لأوكرانيا رغم التحذيرات والتهديدات الأمريكية والغربية يؤذن بتدشين قواعد جديدة للنظام الدولي الذي تشكَّل منذ قرابة ثلاثة عقود، فروسيا التي بدأت في تحدي الغرب بشن حرب ضد جورجيا في عام 2008، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام 2014، والانخراط بعمق في الحرب السورية عام 2015، ثم نشرها لعناصر ميليشيا "فاغنر" في نقاط متعددة في القارة الإفريقية مثل ليبيا ومالي وإفريقيا الوسطى، أشعلت لهيب حرب جديدة، لكن على الأراضي الأوروبية، التي لم تشهد نزاعاً بهذا الحجم بين جيوش نظامية منذ الحرب العالمية الثانية.
اللافت أن الانبعاث الروسي يأتي بالتزامن مع التقهقر الأمريكي خارجياً وداخلياً، فعلى المستوى الخارجي تتوالى الأحداث التي تدل على تآكل قوة الردع الأمريكية، وتراجع قدرة واشنطن على ضبط الساحة الدولية، ومن أبرز دلائل ذلك:
مشهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان دون تنسيق كافٍ مع الحلفاء الأوروبيين، وبالتزامن مع التخلي عن الحكومة الأفغانية، لتتلاشى كأنها لم تحكم البلاد مدة عشرين سنة.
تمدد النفوذ الإيراني في الخليج على حساب واشنطن، وتعرض القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات دورية باستخدام الطائرات المسيرة والقصف الصاروخي، فضلاً عن تعرض السعودية والإمارات لهجمات حوثية متتالية، رغم مظلة الحماية الأمنية الأمريكية للرياض وأبوظبي.
فشل واشنطن في حل الصراعات في ليبيا وسوريا، لتصبح موسكو هي اللاعب الأبرز في الملفين، والفشل الأمريكي في وقف الحرب في اليمن.
حدوث عدة انقلابات عسكرية في عدة دول إفريقية مثل السودان ومالي، دون أن تتمكن واشنطن من ردع أي منها، لتكتفي بالإدانة والتهديد بفرض عقوبات.
فشل واشنطن في تقديم نموذج ناجح في التصدي لجائحة كورونا، مقارنة بالأداء الصيني الذي تمكن من تحجيم انتشار الجائحة على الأراضي الصينية في فترة وجيزة، ثم انطلق لتقديم مساعدات لدول العالم.
أما على المستوى الداخلي الأمريكي فقد أسهمت حقبة ترامب في زعزعة الاستقرار السياسي حتى وصل الحال إلى مشهد اقتحام الكونغرس ومقتل عدة أشخاص خلال ذلك الاقتحام غير المسبوق، ما كشف عمق التوترات الداخلية في الولايات المتحدة.
تفكك النظام الدولي
إن النظام الدولي الحالي قد تشكل مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو في عام 1991، وقام على انفراد أمريكا بالنفوذ والهيمنة، في ظل امتلاكها قواعد عسكرية في الأماكن الاستراتيجية عبر العالم، مثل الخليج العربي والمحيط الهادئ وأوروبا وآسيا وإفريقيا، فضلاً عن قدرات عسكرية غير مسبوقة تكفل تحقق الردع ضد التهديدات والتحديات المتنوعة، وهو ما أنتج نظاماً أمنياً يُحفز القوى الأخرى الإقليمية والمحلية على اتباع قواعد اللعبة خوفاً من التعرض للعقاب الأمريكي.
وقد كان الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما تلاه من حرب قادتها واشنطن ضمن تحالف دولي نموذجاً لما ينتظر أي دولة تفكر في انتهاك قواعد اللعبة الجديدة، ثم تلا ذلك شن واشنطن رفقة الناتو عمليات عسكرية ضد الصرب، لوقف الحرب في البوسنة، ثم كوسوفو، وهو ما جعل واشنطن اللاعب الأبرز عالمياً، والكفيل بحفظ الأمن الدولي، بالتزامن مع إعطائها لنفسها الحق في التدخل في شؤون الدول الأخرى، تحت لافتة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
لقد وظفت الإدارات الأمريكية المتتالية نفوذ واشنطن لبناء نظام تجارة دولي يقوم على تحرير الاقتصاد العالمي، عبر اعتماد النموذج الرأسمالي، وبرز مصطلح العولمة الذي تضمن ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل يتخطى حدود الدول القومية، بالتزامن مع تنامي نفوذ الشركات متعددة الجنسيات.
ولكن جاءت أحداث سبتمبر والحروب في أفغانستان والعراق لتدفع واشنطن لخوض صراعات غاصت عميقاً في أوحالها، واستنزفت الكثير من اقتصادها، وكبّدتها خسائر بشرية ليست بالقليلة، ما أوصلها إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من العراق، ثم أفغانستان، لوقف نزيف الخسائر، وللتفرغ لكبح الصعود الصيني، الذي استغل الانشغال الأمريكي بحروب مكافحة الإرهاب من أجل تعزيز قدرات بكين الاقتصادية والعسكرية، حتى اقترب الإنفاق العسكري الصيني من 270 مليار دولار، ليمثل ثلث الإنفاق العسكري الأمريكي، بعدما كانت الفجوة بينهما أضعاف ذلك، وكذلك وسعت الصين من نفوذها الاقتصادي وتأثيرها في الاقتصاد الدولي، فعلى سبيل المثال بلغ حجم تجارة الصين مع القارة الإفريقية 254 مليار دولار، بينما مازال نظيره الإفريقي الأمريكي يدور حول 64 مليار دولار.
وكذلك استغل الدب الروسي لحظة التراجع الأمريكي للتقدم للأمام، بهدف وقف زحف الناتو إلى حدوده، فكيف للناتو الهارب من أفغانستان أن يتقدم إلى حدود روسيا بغير رضاها؟
إن الفزعة الروسية تهدد أيضاً الدول الأوروبية، التي ركنت منذ الحرب العالمية الثانية إلى مظلة الحماية الأمريكية، لتكتفي بإنفاق ما يقل عن 2% من ناتجها القومي على الدفاع، بينما وجهت جل مواردها نحو سياسات الرفاه الاجتماعي، ولتعيش أوروبا أجواء من الارتباك في ظل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والفشل في تبنّي سياسة خارجية أوروبية موحدة، تتجاوز المصالح السياسية المتضاربة للدول الأعضاء بالاتحاد، وهو ما تجلَّى في معارضة فرنسا وألمانيا للغزو الأمريكي للعراق، رغم مشاركة دول أوروبية أخرى فيه، والتنافس بين فرنسا وإيطاليا في ليبيا، وصولاً إلى دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون لإنشاء جيش أوروبي يدافع عن القارة العجوز ضد التهديدات، بعيداً عن مظلة الحماية الأمريكية، وهو ما تُعارضه الدول الأوروبية الأصغر، حيث لا تود أن تنخرط في مشاريع عسكرية تستنزف مواردها الاقتصادية، وتحبذ بدلاً من ذلك مواصلة واشنطن دورها في حماية الأمن الأوروبي.
إن النظام الدولي السائد منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي مر بتغير جوهري مع تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن العشرين، أصبح يواجه العديد من التحديات في ظل رؤية عدة قوى صاعدة مثل الصين وروسيا، أن ذلك النظام لا يمثل مصالحها، إنما يمثل مصالح واشنطن بالدرجة الأولى، وبالتالي تعمل تلك الدول على استغلال لحظة التراجع الأمريكي لفرض قواعد جديدة.
وباستقراء دروس التاريخ فإن تغيير قواعد اللعبة يتم عادة عبر حروب دامية ومغامرات جريئة، وهو ما يعني أن الفترة القادمة ستشهد صراعات متنامية، وستسخن جبهات ظلت خامدة لسنوات، وربما منذ عقود، وكذلك ستحاول القوى الإقليمية اقتناص الفرص لتحقيق تطلعاتها في مناطق نفوذها، بالتزامن مع انشغال القوى الكبرى بصراعاتها البينية، وهو ما يعني مزيداً من الحروب والأزمات الاقتصادية.