مدار الساعة - في فيلم The Last Duel، كان جان دي كاروج فارساً شجاعاً، حاز احترام الجميع له بسبب بطولاته في ساحات القتال، ورغم أن مهاراته قد ضمنت له اسماً يتردد في بلاط الفرسان الفرنسيين فإنها لم تمنحه الوريث الذي تمناه يوماً.
أما جاك لو جريس فربما كان مجرد مساعد فارس لا أكثر، وبالتالي لم ينل لقب الفروسية أبداً، ولكن ذكاءه ولباقته وعلمه كانت الثالوث الذي ضمن له مكاناً وسط بلاط فرسان الملك وحاشيته.
وبين هذين الرجلين يتأرجح مصير مارجريت دي كاروج، الفتاة المسكينة التي جعلتها خيانة والدها للتاج الفرنسي ضحية لطمع الرجال في مهرها.
تتحرك الخيوط في "The Last Duel" وتتشابك بين الشخصيات السابقة، لتصنع ملحمة حقيقية عن النفس والمجتمع، عن الفكر والحرية، عن المرأة والرجل، وأخيراً عن الأبوة والأمومة.
يسرد لنا هذه الملحمة فيلم The Last Duel من إخراج المخرج العبقري ريدلي سكوت وبطولة بين أفليك ومات ديمون وجودي كومر وآدام درايفر، فيصنعون لنا بأدائهم لوحة متعددة الروايات تأخذنا في رحلة بحث عن الحقيقة وراء القصة التي صنعت آخر مبارزة شرف في فرنسا بتاريخ التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1389 بعدما اتهمت السيدة مارجريت دي كاروج جاك لو جريس بأنه اغتصبها في فراش الزوجية رغماً عنها مما تسبب في حملها.
ووسط بيئة العصور الوسطى، التي تؤمن بالخرافة قبل العقل، والتي يمكن وصفها بغابة يسيطر عليها الرجال وتتحول النساء فيها لفرائس، يجب على السيدة مارجريت أن تواجه نظرات البلاط الملكي والمحكمة الكنسية وغضب زوجها وحديث العامة عن كونها عشيقة جاك لو جريس وبأنها استمتعت بذلك الاغتصاب، فتجد السيدة مارجريت نفسها على وشك أن تخسر كل شيء مقابل الحقيقة.
في تلك العصور المظلمة، كما يشرح فيلم "The Last Duel" كان المجتمع الفرنسي المحافظ أبوياً وذكورياً بامتياز، فالمرأة لا تمثل للفرسان الفرنسيين سوى حاوية لإفراغ شهواتهم ومصنع لصنع ورثة سيوفهم وحاملي ألقابهم.
وبالتالي حينما تتعرض امرأة مهما كانت مكانتها مرتفعة وسط البلاط الفرنسي لجريمة بشعة كالاغتصاب، تواجه معضلة تهدد عالمها بأكمله.
فإما أن تصمت وتخفي الحقيقة، وترضى بكونها على قيد الحياة، فتموت الحقيقة وتضيع الحقوق، وتتحول تلك الجريمة لشبح يحول حياتها إلى كابوس، ولكن ذلك الكابوس لا يغادر صدرها أبداً، فتحترق بناره في النهاية ولا يبقى منها شيء، أو أن تختار القتال لأجل حقها المغتصب، وتضحي بعالمها بأكمله، وتخوض معركة لا لأجلها فقط، بل لأجل كل النساء الصامتات اللواتي عانين مثلها ولم يمتلكن الفرصة للقتال.
الخيار الثاني هو ما فعلته السيدة مارجريت حينما تعرضت للاغتصاب، فقررت أن تواجه غضب زوجها الذي لم ينظر لها أبداً كإنسانة حية، بل مجرد آلة تضمن البقاء لنسله، ثم قررت أن تواجه غضب البلاط والنبلاء والفرسان وتسرد لهم تفاصيل الجريمة البشعة التي تعرضت لها، فلا تحصل على شيء منهم سوى نظرات التحقير والاشمئزاز.
وفي النهاية عليها أن تواجه سلطة الدولة والكنيسة والتي تؤمن بخرافة أن الحمل لا يمكن أن ينتج عن اغتصاب، بالتالي طالما حملت السيدة مارجريت من مغتصبها إذا هي بالتأكيد استمتعت بما حدث، وبالطبع السيد جاك لو جريس المغتصب ليس سوى عشيق لها.
كأي امرأة تجد مارجريت نفسها محاصرة، إن خسرت معركتها فستفقد حياتها، وفي الأفق لا يوجد أمل، فكل أساس من أساسات وطنها وعالمها يتآمر ضدها ولمصلحة مغتصبها.
ثم.. وسط ذلك اليأس يظهر فجر من الأمل، فالزوج الفارس الهمام، لا يترك زوجته وحدها وسط تلك الغابة، بل يصارع لأجلها، ويطلب أن يبارز المغتصب في مبارزة شرف حتى الموت، والحقيقة سيكشفها الرب بيد المنتصر في تلك المبارزة.
عن الرجل والمرأة
لا أريد أن أحرق أحداث فيلم The Last Duel لك، ولكن يمكنني القول إن المجتمع الأبوي الظالم الذي عانت مارجريت تحت سلطته، استطاعت تحت ظله أيضاً أن تنال حقها المغتصب وعدالتها المفقودة، فمارجريت دون زوجها كانت ستخسر حياتها ثمناً لتحديها هذه السلطة الأبوية، بالتالي كان الزوج الداعم والفارس المدافع عن عرضه هو السبيل الوحيد للحصول على ذلك الحق المفقود.
بالطبع صنعت عصور الظلام الأوروبية نموذجاً مقززاً للمجتمع الأبوي، نموذجاً كاثوليكياً قائماً على مبدأ الخرافة وتحقير الأنثى، ولكن الرجال فقط من يمكنهم تغيير هذا النموذج، فهم من يمتلكون القوة لتحديه وبالتالي القوة لصياغة نموذج أفضل يضمن لهم حفظ الحقوق والأعراض.
في النهاية.. ومع ختام فيلم The Last Duel، كانت السيدة مارجريت بطلة قررت أن تواجه عصر الظلام الذكوري وحدها، ولكن معركتها كانت خاسرة منذ بدايتها، ولولا ذلك الزوج الذي حمل على عاتقه استرداد حقه وحق زوجته ما كانت لتنتصر قضيتها أبداً.
مما يضعنا أمام حقيقة واضحة أخرى، وهو أن الخطاب النسوي الذي يحاول صياغة نموذج شيطاني من الرجال استناداً إلى عصور الظلام الأوروبية، يغفل بشكل واضح عن حقيقة أن الرجال أنفسهم كانوا ضحايا لنفس العصور ونفس النظم الأبوية الظالمة، وكذلك يخفي عمداً حقيقة أن الرجال ومعهم نساؤهم هم من وقفوا معاً ضد هذه النظم وهم من دمروها.
فمارجريت في فيلم "The Last Duel" ما كانت لتحصل على انتقامها لولا جان، وجان ما كان ليعرف الحقيقة دون مارجريت، وذلك التكامل بين الرجل والمرأة هو السبيل الوحيد للحصول على العدالة للاثنين.