طوى الرئيس الروسي/بوتين بقراره الاعتراف بـ«جمهورِيّتي إقليم دونباس», فصلاً من العلاقات المأزومة/المتأرجحة مع المعسكر الغربي.
فصل حفِل بكثير الضجيج الإعلامي واستعادة أجواء الحرب الباردة, وإشهار سيف العقوبات بديلاً عن المسارات الدبلوماسية, خاصة استغلال ما واظب الأميركيون وَصفَ الاقتصاد الروسي بـ«الضعيف والمُتراجِع», في الوقت الذي لم يتوقفوا عن ضخ المزيد من الأسلحة والمعدات والتجهيزات العسكرية واللوجستية المتقدمة بل الفتَّاكة كاسرة التوازن. على نحوٍ أرادوا من ورائه «ردع» الكرملين.
ترافقت الإجراءات الغربية وبخاصة الأميركية/وحلف الناتو مع رفض مُطلق لتقديم ضمانات أمنية طالبَت بها روسيا, بل وأعلنَت (واشنطن/والناتو) بلا مواربة, أنّهما لن تُقفلا أبواب الناتو أمام أوكرانيا لنيل عضوية الحلف «الدفاعي» في تفسيرهم المُراوغ، ناهيك مطالبتهم روسيا بسحب قواتها الموجودة على أراضيها، بل شجعوا أصحاب الرؤوس الحامية في كييف لإعلان رغبتهم امتلاك السلاح النووي، بعد أن أبدوا «ندمهم» على تخلّيهم عن الترسانة النووية «السوفياتية» التي كانت بحوزة أوكرانيا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
ما علينا..
ليس ثمّة ما يمكن إضافته أمام حال الهستيريا الغربية المتجددة، التي لم تنجح ترسانته الإعلامية متعددة الأذرع والتمويل الغزير ووثيقة الصلة بأجهزة الاستخبارات.. في بثّ الرعب لدى سيد «الكرملين», إذ عكست كلمته التي اعترفت فيها رسمياً بجمهوريتي حوض الدونباس.. دونيستك ولوغانسك، إدراكه العميق لأبعاد وتداعيات هذا الاعتراف وبخاصة إضاءته المستفيضة على نشأة أوكرانيا وفضل الثورة البلشفية وقائدها لينين, في إيجاد الكيان الأوكراني بل أيضاً بعد استقلال تلك الجمهورية عام1991.
لم يكن اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي الذي تمّ بثّه على الهواء مباشرة, مجرد رسالة من بوتين إلى المعسكر الغربي فقط, بقدر ما أراد منه الرئيس الروسي التأكيد على أنّه ضاق ذرعاً بمراوغة الغرب وبخاصة دبلوماسية الصلف/والغطرسة الأميركية, المحمولة على تهديدات بل واستهانة بروسيا، وبخاصّة رئيسها وإطلاق الأوصاف غير اللائقة بحقّه من قبيل جنون العظمة والاستبداد والزهو بترسانته النووية/وصواريخه فرط الصوتية واستعراضاته العسكرية.
وإذ بدأت وسائل الإعلام الغربية مباشرة بعد إعلان بوتين الاعتراف بجمهوريتي الدونباس و«التغنّي» بوحدة الموقف الغربي من القرار الروسي, والإشادة بما ستفرضه واشنطن, لندن, باريس, برلين والاتحاد الأوروبي كما الناتو من عقوبات على موسكو، فإنّ من السابق لأوانه أخذ تلك المزاعم عن «وحدة» المعسكر الغربي على محمل الجد، خاصة إذا توقفنا عند دعوة الرئيس الفرنسي/ماكرون إلى فرض عقوبات «مُحدَّدة الأهداف» على روسيا، ناهيك عمّا أظهرته الأسابيع الساخنة التي سبقت إعلان بوتين الاعتراف بالدونباس، في شأن خط الغاز نوردستريم/2 ومطالبة ?رلين بأن يتمّ «تنحية» ملف «الطاقة» عن العقوبات المُلوّح.
من السذاجة كذلك الاعتقاد بأنّ بوتين اتّخذ قراره الحاسم هذا, الذي أسّس فيه لمرحلة جديدة من المواجهة, التي لم تتوقف بين روسيا والمعسكر الغربي منذ وصول بوتين إلى الكرملين بداية الألفية الجديدة. وإن كانت شهِدت فترات صعود/وهبوط, لكن تمّ تصنيفها على أنّها متدحرجة لـ«تأخير» الصدام, خاصة بعد غزو العراق وتدمير ليبيا وصولاً إلى الانقلاب الفاشي في أوكرانيا/2014 وما حدث بينهما من أحداث أبرزها في جورجيا/2008 واعتراف موسكو بجمهوريّتي/أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. الأمر الذي يدفع بالمراقب «الآن» للتوجه نحو الصين لمعرفة رد ف?ل القيادة الصينية على الخطوة الروسية الدراماتيكية، خاصّة في ضوء «إعلان بيجين» الذي صدر عقب قمة بوتين-شي جين بينغ/4 شباط، وإعلانهما شراكة بلا حدود ودعما مُتبادلاً في مواجهة التوتر المتصاعد مع الغرب، ودعم بيجين مطالب موسكو بضمانات أمنية، ما عكسَ ضمن أمور أخرى تحالفاً «أوراسِيّا» في طور التشكل والبروز، أسهمّ المعسكر الغربي في الدفع إليه بل وبلورته, بعد فشل المحاولات الأميركية في احتواء روسيا, للتركيز على المخطط الذي وضعته إدارة أوباما/بايدن لمواجهة الصين, والحؤول دون بروزها كقوة اقتصادية/وعسكرية مُنافسة, تمهد?لنظام عالمي مُتعدد الأقطاب, يطوي ثلاثة عقود من التفرّد الأميركي في قيادة المعمورة.
يقول فريد زكريا في مقالة له في صحيفة/واشنطن بوست بعد وصفه تعامل إدارة بايدن مع الأزمة الأوكرانية بـ«الذكاء والفعالية»، وأنّها صاغت سياسة يمكن وصفها بالردع إضافة إلى الدبلوماسية: إنّ الأزمة الأوكرانية سلطت الضوء على «فشل استراتيجي» أكبر، يمتدّ إلى ما بعد هذه الإدارة. إحدى القواعد المركزية للاستراتيجية ـ أضاف ـ هي تقسيم خصومك، لكن السياسة الخارجية الأميركية تفعل العكس بشكل متزايد. في وقت سابق من هذا الشهر - واصلَ زكريا- أكّدت روسيا والصين على «صداقة بلا حدود»، في وثيقة من أكثر من/5000 كلمة, يبدو- ختم مُستنتِ?اً ـ أنّ القوتيْن إحداهما أقرب إلى الأخرى من أيّ وقت مضى.
في السطر الأخير.. ليس ثمَّة مبالغة الاستنتاج بأنّ موازين القوى كما معادلة التحالفات/ والاصطفافات التي ستظهر لاحقاً, ستكون من نتاج الاعتراف الروسي بإقليم دونباس. على نحو يمكن القول: إنّ مرحلة ما بعد الاعتراف الروسي, لن تكون دولياً وخصوصاً أميركياً وأوروبياً.. كما قبلها.
... الأيام سَتروي..
kharroub@jpf.com.jo
الرأي