مدار الساعة - وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً بالاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا (وكلاهما تمثلان إقليم دونباس)، فماذا يعني ذلك؟ وهل يمكن أن تجبر العقوبات الاقتصادية على روسيا بوتين على التراجع؟
ففي خطاب تلفزيوني مطول مساء الإثنين 21 فبراير/شباط، وصف بوتين أوكرانيا بأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا، وقال إن شرق أوكرانيا كان أرضاً روسية قديمة.
ثم بث التلفزيون الرسمي الروسي لقطات لبوتين وهو يوقع مرسوماً يعترف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا إلى جانب اتفاقيات تعاون وصداقة، فيما جلس مقابله زعيما المنطقتين المدعومتين من روسيا، جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية.
وتمثل العلاقة العضوية بين روسيا وأوكرانيا أصل الصراع الحالي من جهة، بينما يمثل طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأوضاع الداخلية الصعبة لنظيره الأمريكي جو بايدن جوهر هذه الجولة من الصراع المشتعل على نار هادئة منذ عام 2013 على الأقل، والآن نجيب عن أسئلة خطوة الاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين من جانب موسكو.
أين تقع دونيتسك ولوغانسك؟
تقع المنطقتان الانفصاليتان في شرق أوكرانيا وتمثلان معا إقليم دونباس، وهو إقليم في أقصى شرق أوكرانيا ومجاور لروسيا ويتحدث أغلب سكانه اللغة الروسية كما يعيش في الإقليم مواطنون روس.
ويرجع تاريخ إعلان دونيتسك ولوغانسك (دونباس) الانفصال عن أوكرانيا إلى عام 2014 خلال أزمة مشابهة للأزمة الحالية نتج عنها ضم روسيا لإقليم شبه جزيرة القرم الأوكراني أيضاً بعد سيناريو مشابه بدأ بإعلان القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان الاستقلال ثم اعتراف روسيا وإرسال قوات "لحفظ السلام" ثم طلب القرم الانضمام إلى روسيا، وهو ما حدث.
لكن موسكو لم تعترف بانفصال دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا طوال السنوات الماضية، لكن كييف والغرب يتهمان موسكو بدعم الانفصاليين في المنطقتين عسكرياً وهو ما تنفيه موسكو. وعلى مدى السنوات الماضية قتل أكثر من 15 ألف شخص في القتال بين الانفصاليين والقوات الأوكرانية، بحسب تقديرات كييف.
ماذا يعني اعتراف موسكو الآن باستقلال المنطقتين؟
هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها روسيا رسمياً أن إقليم دونباس ليس جزءاً من أوكرانيا. وكان السفير الروسي لدى واشنطن قد أكد الجمعة الماضي على أن موسكو لا تزال تعتبر دونيتسك ولوغانسك كأراض أوكرانية، لكنه أضاف أن ذلك قد "يتغير"، وهو ما حدث.
هذا الاعتراف يعطي لبوتين المبرر لإرسال قوات إلى المنطقتين بوصفها "قوات حفظ سلام"، وهو ما حدث بالفعل بعد أن وقع الرئيس الروسي مرسوم الاعتراف بالجمهوريتين المستقلتين ووقع مع رئيسيهما اتفاقيات تعاون.
ورأى شاهد من رويترز طوابير طويلة من المعدات العسكرية، تشمل دبابات، في مدينة دونيتسك بعدما أمر بوتين وزارة الدفاع بإرسال قوات إلى المنطقتين "لحفظ السلام" في مرسوم أصدره بعد قليل من إعلانه الاعتراف باستقلال المنطقتين. وقال مراسل لرويترز إن حوالي خمس دبابات شوهدت في طابور على أطراف دونيتسك واثنتين في جزء آخر بالمدينة. ولم تظهر شارات على المركبات.
وللتوضيح أكثر، إرسال روسيا تلك القوات إلى دونباس (دونيتسك ولوغانسك) سيكون علنياً ومكثفاً، والهدف هو توفير الحماية لجمهوريتين مستقلتين حليفتين لروسيا في مواجهة الجيش الأوكراني. والخطوة التالية المتوقعة هي أن يطلب الانفصاليون المساعدة من موسكو للسيطرة على مناطق من دونباس لا تزال تحت سيطرة القوات الأوكرانية، بحسب ما أورده تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية عن أليكساندر بوروداي عضو البرلمان الروسي والزعيم السياسي السابق في دونيتسك.
ماذا عن رد فعل الغرب بقيادة أمريكا؟
أثارت الخطوات الروسية، كما كان متوقعاً، تنديداً من الولايات المتحدة وأوروبا اللتين توعدتا بفرض عقوبات جديدة. ورد بايدن بإصدار أمر تنفيذي يحظر التجارة والاستثمار بين الأمريكيين والمنطقتين الانفصاليتين في دونباس، واستيراد أي سلع أو خدمات أو تكنولوجيا من هناك.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي في بيان إن التدابير التي يتم إعدادها رداً على مرسوم بوتين منفصلة عن العقوبات التي جهزتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في حالة الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا.
وقال مسؤول أمريكي كبير لرويترز إن نشر القوات بالمنطقتين الانفصاليتين لا يشكل حتى الآن "غزواً إضافياً" من شأنه أن يؤدي إلى فرض العقوبات المشددة، نظراً لأن روسيا لديها بالفعل قوات هناك، لكن حملة أوسع نطاقاً قد تحدث في أي وقت.
واتفقت بريطانيا وفرنسا وألمانيا أيضاً على الرد بعقوبات على اعتراف روسيا بالمنطقتين الانفصاليتين، وقال البيت الأبيض إنه سيعلن عن عقوبات جديدة اليوم الثلاثاء. من المقرر أن تجتمع لجنة الطوارئ التابعة لمجلس الوزراء البريطاني الثلاثاء، فيما تعهدت وزيرة الخارجية ليز تراس "بفرض عقوبات جديدة على روسيا".
ووعد كل من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل بأن الكتلة "سترد بفرض عقوبات على المتورطين في هذا العمل غير القانوني".
رد الفعل الغربي إذاً لا يرقى إلى حد فرض عقوبات اقتصادية "كارثية" على روسيا، وهو ما كان الرئيس الأمريكي قد أشار إليه بالفعل من قبل ووصفت تصريحاته وقتها بأنها زلة لسان. فخلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض مساء الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني، توقع بايدن أن تقوم روسيا بتحرك نحو أوكرانيا، وقال إن موسكو ستدفع ثمناً باهظاً إذا أقدمت على غزو شامل لكن "توغلاً بسيطاً" سيكبدها ثمناً أقل.
وقال بايدن وقتها: "ظني أنه سيتحرك… لابد أن يقوم بشيء" في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومضى يقول: "روسيا ستحاسب إذا قامت بالغزو، وهذا يعتمد على ما ستفعله. سيكون الأمر مختلفاً لو كان توغلاً بسيطاً. لكن لو فعلوا حقاً ما بمقدورهم فعله… سيكون الأمر كارثة لروسيا إذا غزت أوكرانيا ثانية".
هل تردع العقوبات بوتين هذه المرة؟
على الرغم من أن هذا السؤال يعد افتراضياً ويتعلق بما قد يحدث، إلا أن إجابته بالنفي تكاد تكون جازمة ومحسومة. فردود الأفعال الغربية حتى الآن تتحدث عن عقوبات يمكن وصفها بالشكلية وهناك تفريق واضح بين خطوة الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك (دونباس) وبين "الغزو الشامل" لأوكرانيا.
كما أن السوابق التاريخية المتعددة في هذا السياق تشير إلى أن بوتين لا يتراجع عن تلك الخطوات مهما كانت قسوة العقوبات الاقتصادية، كما حدث في شبه جزيرة القرم عام 2014، والتي لا تزال العقوبات التي فرضها الغرب بسبب ضمها قائمة دون أن يكون لها تأثير يُذكر على خطوات بوتين.
وهناك أيضاً حالة جورجيا، التي تدخلت روسيا فيها عام 2008 بنفس السيناريو الحالي في أوكرانيا من خلال الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (منطقتين انفصاليتين أيضاً) ونتج عن ذلك السيناريو تعطيل انضمام جورجيا إلى حلف الناتو حتى اليوم.
وبما أن قضية انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو تمثل لب الصراع في الأزمة، فإن اعتراف بوتين باستقلال دونيتسك ولوغانسك (دونباس) عن أوكرانيا، سيكون بمثابة مسمار جحا الذي يعرقل خطط انضمام أوكرانيا إلى الحلف، كبديل عن الضمانات الأمنية التي يريدها بوتين من بايدن ورفض الأخير تقديمها.
هل يعني ذلك أن روسيا لا تواجه أي مخاطر؟
بالطبع لا، فالموقف الآن في شرق أوكرانيا أصبح أكثر قابلية للاشتعال في ظل وجود قوات روسية في دونباس بشكل رسمي، وبالتالي ارتفاع احتمال وقوع اشتباكات مباشرة مع القوات الأوكرانية، وعندها لا أحد يمكنه التكهن بالاتجاه المحتمل للأحداث.
فالغرب بقيادة بايدن قد لا يكونون متحدين الآن بشأن الرد على خطوة بوتين الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، لكن أي اشتباكات مباشرة بين القوات الروسية والأوكرانية سوف تؤدي على الأرجح إلى توغل روسي أعمق في الأراضي الأوكرانية وربما احتلال العاصمة كييف، كما تتوقع التقارير الاستخباراتية الأمريكية، وهو ما يعني توحيد الغرب تماماً في مواجهة روسيا وبالتالي اختلاف رد الفعل بشكل جذري.
والمؤكد أن هذا ليس غائباً عن القادة الروس، لذلك يتحركون بشكل تدريجي وحذر، لكن الواضح حتى الآن أن بوتين ينفذ بالفعل ما قال غريمه بايدن إنه سينفذه، حتى وإن كان ذلك يتم في توقيتات زمنية مختلفة. فبايدن توقع أن بوتين سيغزو أوكرانيا قبل يوم 20 فبراير/شباط، لكن الغزو لم يحدث حتى الآن. لكن سير الأحداث بهذه الطريقة يشير إلى أن المواجهة المفتوحة بين الجيشين الروسي والأوكراني قد تكون مسألة وقت بالفعل، وعندها قد يصبح "الغزو" أمراً واقعاً.