مدار الساعة - في أوائل عام 1922م، عاش سعد زغلول أوضاعاً مزرية في جزيرة سيشل التي اختارها الإنجليز له منفى، فبسبب سوء جوّها تدهورت حالته الصحية، ولا ننسى هنا أن ابن مصر في ذلك الوقت كان في الـ64 من عُمره.
في 18 أغسطس/آب من ذات العام، اضطر الإنجليز لنقل زغلول -إلى جبل طارق هذه المرة- حتى لا يموت في المنفى، وتثور ثائرة المصريين ضدهم.
أنقذت هذه الخطوة حياة زعيم مصر، لكنها ضاعفت العقوبة عليه، بعدما عُزل عن بقية صُحبته (مصطفى النحاس، وفتح الله بركات، وعاطف بركات، ومكرم عبيد، وسينوت حنا) ونُقل إلى جبل طارق وحده تماماً، لا يُؤنس وحدته إلا خادم مصري بسيط التعليم، فعاش سعد منفى داخل المنفى.
وقتها، خضع إقيلم "جبل طارق" للسيطرة البريطانية منذ عام 1713م بعدما اقتنصته لندن عنوة من إسبانيا، ويتمتع الإقليم بطقسٍ لطيف وموقع استراتيجي مميز يطلُّ على مدخل البحر المتوسط، ولا يزال حتى الآن خاضعاً للسيطرة البريطانية.
لم يطمع زغلول من الإنجليز في السماح له إلا بسكرتير حسن التعليم، يُجيد اللغات الأجنبية، حسن الخط، يُسلّي أوقاته ويُملي عليه مذكراته وبرقياته، والأهم يُسرّي عليه أوقاته في ذلك المكان البعيد عن أرض مصر.
فطلب -رسميّاً- من الحاكم البريطاني في جبل طارق أن يُعيّن له سكرتيراً أو على الأقل يُسمح له بِاستقدام واحد من مصر، فرفض الحاكم البريطاني، تنفيذاً لتعليمات الحكومة البريطانية التي رأت أن سعد يجب أن يبقى مشلولاً في المنفى، معزولاً عن أي نشاط طمعاً في ألا يزيد من تعبئة الحركة الوطنية المصرية -الثائرة وقتها- ضد الإنجليز.
رغم الرفض الإنجليزي التام، توصّل زغلول إلى حلٍّ عبقري؛ أعاد خادمه المصري إلى البلاد بدعوى قيامه بزيارة إلى أهله، وهو في الحقيقة كان يحمل في قعر حذائه رسالة سرية إلى محمد كامل سليم السكرتير الخاص لسعد زغلول خلال ثورة 1919م.
حملت تلك الرسالة طلباً زغلوليّاً واحداً؛ بأن يتصرّف سليم بأي شكل ويجد السكرتير المطلوب ويبعثه إلى سيشل بدلاً من الخادم الذي وصل توّاً.
عن هذه الخطوة كتب سعد زغلول في مذكراته يوم الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول 1022م، قائلاً: "أرسلتُ إلى كامل سليم تلغرافاً نصّه "يعود عبد الله (يقصد الخادم) حتماً، وإذا أمكنك أرسل لي شخصاً آخر يعرف العربية والإنجليزية، للاستعانة به على الكتابة وقضاء اللوازم، في بلد لا يتكلم أهله بغير الإنجليزية والإسبانية".
هنا وقع سليم في مأزق؛ ففي ظرف وقتٍ وجيز كان عليه الوصول إلى شاب مثقف متعلّم -يُحسن صُحبة زعيم مصر في غربته- وفي الوقت نفسه لا يبدو عليه أنه كذلك بل يكون صالحاً للعب دور الخادم أمام الإنجليز، والأهم من كل ذلك أن يقبل ذلك الشاب هذه المخاطرة الهائلة، فهو سيكون طيلة الوقت تحت رحمة الإنجليز تماماً، ولو علموا -في أي وقت- أنه سكرتير مثقف وليس خادماً فسيعدمونه بلا ريب.
علاوة على ذلك، يجب أن يكون ذلك الشاب مجهولاً عن أعين الإنجليز، لذا استُبعدت فوراً خيارات المتطوعين لهذه المهمة مثل محمود سليمان غنام عضو لجنة الطلبة العليا، وغيره من طلبة الوفد المعروفين في الجامعات، لأنهم كانوا مرصودين إنجليزيّاً، وسيكتشف البريطانيون هوياتهم المستترة من أول فحص أمني، وعندها تنهار الخطة من بدايتها.
أمضى سليم 20 يوماً في البحث عن الشاب المنشود فلم يجد! فخلال هذا الوقت كان الإنجليز قد أحكموا قبضتهم على مصر؛ فرضوا الأحكام العرفية، ونشروا جنودهم في الشوارع، وكانت معسكراتهم الأمنية سلخانات تعذيب لا تتورّع عن فِعل كل الموبقات الممكنة للتنكيل بالوطنيين المصريين، لذا كانت المهمة المطلوبة أشبه بمحاولة غير مباشرة للانتحار، فتقاعس الكثيرون من شباب الوفد حماساً عن أدائها.
يحكي سليم أنه في نهاية المطاف تحدّث إلى أحد مساعديه، ويُدعى "محمد الأنصاري"، الذي لم يتردد في القبول فوراً.
من هو محمد الأنصاري؟
على الرغم من قِلة شهرته، امتلك الأنصاري تاريخاً وطنيّاً حافلاً، فلقد عمل لفترة طويلة كاتباً داخل معسكر تابع للقوات البريطانية، وانضمَّ إلى الجهاز السري التابع لحزب الوفد، والذي أسّسه سعد زغلول بقيادة عبد الرحمن فهمي ليكون ذراعه الطُولى في السيطرة على الشارع المصري عبر تجنيد آلاف الشباب الوطنيين في كافة أنحاء مصر يأتمرون بأمر زغلول رأساً بعيداً عن المسار الحزبي السياسي التقليدي الذي مثّله حزب الوفد ورجاله، والذين بقي ذلك الجهاز بمعزلٍ عنهم طيلة نشاطه قبل ثورة 1919م وبعدها.
مثله مثل الكثير من الشباب المتيّم بالزعيم سعد زغلول، انضمَّ محمد الأنصاري إلى ذلك الجهاز قُبيل الثورة عن طريق ابن عمِّه علي عزت الأنصاري، ونجح محمد في تأليف خلايا وطنية سرية من المصريين العاملين داخل المعسكرات الحربية البريطانية، بهذه الخلايا قاد عمليات جريئة لحرق الطائرات العسكرية البريطانية داخل المعسكرات، وداوَم على التجسس على الطيارين البريطانيين والاستيلاء على تقاريرهم السرية، وزوّد بها رئيسه المباشر عبد الرحمن فهمي الذي كان يُرسلها بدوره إلى سعد في المنفى، وهكذا لم يكن الأنصاري غريباً عن ممارسة الأعمال الوطنية الخطيرة في عقر دار البريطانيين.
وعقب تكاثف نشاطه في قيادة الطيران البريطاني، نصحه فهمي بالاستقالة من منصبه لأنه أصبح موضع شُبهة على أن يعيّن بعدها في سكرتارية الوفد، ليُصبح الأنصاري مسوؤلاً عن طباعة المنشورات التي كانت قيادة الوفد تكتبها وتوزعها على الشعب المصري للتنديد بنفي سعد زغلول إلى سيشل، والتي كانت إنجلترا تعاقب كاتبيها بالإعدام!
من أجل عيون مهمته الجديدة، أجّل الأنصاري زفافه على ابنة عمه –لأجلٍ غير مُسمّى- قبل شهرٍ واحدٍ من حدوثه، وإمعاناً في خداع الإنجليز، امتنع عن الطعام لفترة من الزمن حتى شحب لونه وهزل جسده، ثم تخلّى الأنصاري عن ارتداء البدلة ولبس الجلباب، الزي الرسمي للفلاحين المصريين، واستخرج لنفسه "رخصة سفرجي" رسمية من مكتب الخدم، وعلى هذه الهيئة سافر إلى سعد في جبل طارق حاملاً بعض الرسائل السرية داخل طربوشه خادعاً كل عمليات التفتيش الدقيقة التي أخضعها له الإنجليز طول الطريق.
سَعِد سعدٌ كثيراً بقدومه، وآنس في الأنصاري ثقافة وعلماً كبيرين أعاناه على تسرية أيامه الصعبة في جبل طارق، حتى إن سعد بعث ببرقية شُكر إلى سكرتيره على حُسن اختياره، ولم يكتفِ سعد بذلك، وإنما كتب عن مُساعده الجديد في مذكراته يوم الثلاثاء 19 ديسمبر قائلاً: "حضر الأنصاري أمس، وعلى أثر وصوله تحوّلت القلعة التي أقيم فيها إلى مركز قيادة يعمل ليلاً ونهاراً".
بعدها لعب الأنصاري دوراً كبيراً في توطيد دعائم الوفد برجاله في مصر وأنحاء أوروبا، فكان سعد يُملي عليه رسائله -فائقة السرية- والتي كان يرسلها إلى الكوادر الوفدية في القاهرة وعواصم أوروبا يخطرهم فيها بتعليماته واجبة الاتباع خلال تلك الفترة المفصلية من تاريخ مصر.
كشف الأنصاري بعض تفاصيل هذا العمل في مذكراته قائلاً: "كنت أدوّن تعليمات سعد زغلول السرية إلى كامل سليم في القاهرة، وإلى سعيد زغلول في الزقازيق، وإلى حامد محمود في لندن، وإلى علي الشمسي في جنيف، وإلى الطلبة المصريين أعضاء الجمعيات الوطنية المصرية في تولوز وباريس وبرلين وغيرها".
وفي 12 فبراير/شباط بعث الأنصاري خطاباً عاطفياً إلى سعيد زغلول ابن شقيقة سعد زغلول تحدّث فيه عن عنايته الفائقة بسعد قائلاً: "لا أنسى توصية 14 مليوناً (عدد مواطني مصر حينها)، ولا أنسى توصية أصدقائي وأحبائي، الذين لا تزال الآن تردني منهم خطابات توصية، إنني أخدم هنا لست موظفاً أو أجيراً، لكن كشخص حُمِّل بأمانة، فعليه أن يُحسن تأديتها فإن خيراً فلنفسه وإن أساء فعليها".
خاف الأنصاري من التدهور المستمر في الحالة الصحية لسعد زغلول فوضع له خطة مُحكمة تقضي بتهريبه إلى سويسرا، حيث يُمكنه قيادة الثورة من هناك أو حتى العودة إلى مصر إن أراد، وبعد أيامٍ طوال من التخطيط المُحكم أفسد سعد كل شيء بجملة واحدة "إنها خطة ممتازة، ولكنّي أعطيتُ كلمة شرف بألا أحاول الهرب"!
يقول سليم في مذكراته: "إن هذا العمل الذي قام به محمد الأنصاري عمل وطني من الطراز الأول، وهو في نظري الفدائي الأول الذي عرفته عن كثب، وكان من الممكن جداً أن يتعرّض للموت أو الأشغال الشاقة بأمرٍ من المحكمة العسكرية البريطانية".
المكافأة البرلمانية
سعد زغلول تحت قبة البرلمان
عقب قرار الإفراج عن سعد زغلول اصطحب الأنصاري سعداً إلى فرنسا، وفي مرسيليا عرض عليهم الملك فؤاد أن يتولّى سعد الوزارة فقبل سعد، وهو ما اعتبره الأنصاري "غلطة كبيرة"، وفي رأيه كان على سعد تعيين آخرين من أنصاره في الحكومة على أن يبقى هو رمزاً للأمة وزعيماً لها بعيداً عن معترك السياسة وتعقيدات الحُكم وشِراكه.
بعدها حُتِّم على الثنائي أن يفترقا لأول مرة منذ وقتٍ طويل؛ فلقد قرّر زغلول البقاء في فرنسا للاستشفاء ثم مواصلة قيادة الحركة الوطنية المصرية من هناك على أن يعود لمصر رئيساً لوزرائها لاحقاً في حكومة 1924م، أما الأنصاري فقد عاد إلى القاهرة بعد أن أدّى مهمته خير قيام.
اكتفى الأنصاري بما فعل من واجب وطني، وقنع بأن يُكمل ما تبقّى من حياته في صمت، وهو ما لم يُكتب له؛ فعقب عودة سعد زغلول إلى مصر، وتقلّده منصب رئاسة الوزراء لم ينسَ مكافأة الأنصاري على مجهوداته معه، فأمر بتعيينه في الإدارة التشريعية بمجلس الأمة براتب قدره 20 جنيهاً، وهم رقم أكثر من ممتاز بمقاييس ذلك الوقت.
هنا ثارت ثائرة الناس حول سعد، ليس فقط من معارضيه ولكن من أنصاره، الذين حمل بعضهم لزعيم مصر سؤالاً استنكاريّاً "كيف تعيّن خادمك في وظيفة برلمانية بهذا الراتب الضخم؟!".
وهنا كشف سعد عن طبيعة الدور الذي لعبه الأنصاري، ليس فقط بسبب صُحبته سعد في الغُربة، ولكن أيضاً في نشاطه السابق على هذه الخطوة من خلال عضويته في الجهاز السري، والذي أمعن مؤسسه عبد الرحمن فهمي في إضفاء السرية على مكوّناته لدرجة أن أغلب أعضائه كانوا لا يعرفون بعضهم بعضاً حتى إن بعض قادة الجهاز السري اعترضوا على تكريم الأنصاري بهذه الوظيفة دون أن يعلموا أنه كان عضواً نشطاً معهم في الجهاز السري الذي كانوا يرأسون عملياته!
بعد أن هدأت الضجة انسحب الأنصاري –غير آسفٍ- من الأضواء مُجدداً، إلا من رسالة بعثها ذات يوم للكاتب الصحفي مصطفى أمين يكشف فيه جانباً من إسهامه الوطني في ثورة 1919م ومن بعض الجوانب الخفية في ذلك الخادم السرّي الذي حوّله سعد زغلول إلى برلماني.
مصادر إضافية
كتاب "التاريخ الإسلامي، الجزء الـ8: العهد العثماني"، محمود شاكر، ص 500.
كتاب "الكتاب الممنوع"، مصطفى أمين، ص 305.
كتاب "يا رب"، علي أمين، ص 104.