مدار الساعة - تحولت قصة قصبة لوداية إلى قضية رأي عام بعد بروز قضية إفراغ عائلة ميكري الفنية بالمغرب من المنزل الذي يكترونه في القصبة بالرباط إلى موضوع سجال إعلامي وجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.
وانقسم المغاربة بين من يدعو إلى إبقاء هذه العائلة الفنية في بيتها الذي اكترته منذ خمسين عاماً بمبلغ 500 درهم (50 دولاراً)، بالنظر إلى كون البيت يضم تراثهم الموسيقي وشهد انطلاق أحداث فنية مهمة، ومن يقف في صف العائلة التي اشترت البيت سنة 2009 ويدعمون حقها في إفراغه والإقامة فيه؛ لكون البيع قانونياً، وقرار الإفراغ اتخذه القضاء بعد سنوات من الترافع القانوني أمام المحكمة.
وبعيداً عن السجال العاطفي والقانوني حول من يحقُّ له السكن في هذا البيت، فموقع هذا الأخير وسط الأوداية أو لوداية سلط الضوء على منازل هذه القلعة التاريخية التي أدرجتها اليونسكو ضمن لائحة التراث الإنساني العالمي سنة 2012.
إضافة إلى معالمها الأثرية التي تؤرخ لحقب تاريخية مختلفة، تضم القصبة التي تطل من جهة على مصب واد أبي رقراق ومن جهة أخرى على المحيط الأطلسي، منازل سكنية ومحلات تجارية.
ويعيش السكان داخل الأسوار التاريخية، حيث الأزقة الضيقة والمتعرجة شأنها شأن المدن العتيقة في المغرب، حيث لا مكان لوسائل النقل الحديثة.
وكانت قصبة الأوداية في الأصل قلعة عسكرية محصنة أسسها المرابطون في القرن الثاني عشر لمحاربة قبائل بورغواطة، غير أن أهميتها ازدادت عندما قرر الموحدون بناء رباط عند مصب نهر أبي رقراق، أطلقوا عليه اسم "مهدية" نسبة إلى الزعيم الروحي لدولتهم المهدي بن تومرت.
وبعدهم تعرَّض المكان للخراب والإهمال إلى أن استوطنه الهورناشوسيون القادمون من الأندلس، فأعادوا إحياءه وأقاموا فيه إمارة أبي رقراق، وكانوا ينطلقون منه في أعمال الجهاد البحري، وسمي حينها قصبة الأندلس.
قصة قصبة لوداية
يقول الباحث في تاريخ الرباط هشام لحرش، إن القصبة شهدت في العصر الموحدي أحداثاً تاريخية مهمة، حيث اتخذها السلطان عبد المومن بن علي مقراً لإقامته، وبنى فيها قصراً وحصَّنها بأسوار عالية، وبنى مسجداً يُعتبر من أقدم مساجد الرباط.
وإلى جانب إعمار القصبة، عمل الموحدون على بناء مدينة الرباط، فأنشأوا عدداً من المنشآت، من أهمها مسجد حسان الذي ماتزال صومعته شامخة إلى اليوم رغم الخراب الذي اعتراها عبر القرون.
ومن الأحداث المهمة التي شهدتها القصبة حينها- حسب لحرش- بيعة السلطان عبد المومن الموحدي من طرف الأندلسيين، إذ اشترط عليهم للعبور إلى الأندلس ونجدتهم في مواجهة هجمات المسيحيين وضعف الممالك الأندلسية المجيء إلى الرباط لمبايعته، فجاءت وفود تمثل العلماء والأعيان والقادة وعامة الناس وخاصتهم، وبايعوه في بيعة مشهورة.
ويضيف لحرش أن الاسم الحالي للقصبة يعود إلى قبيلة الأوداية أو لوداية، وهي قبيلة من أصل عربي من معقل الهلاليين، وقد ارتبطت هذه القبيلة تاريخياً بالخدمات العسكرية التي كانوا يؤدونها للحكام مقابل الحصول على الأراضي.
وكان السلطان العلوي مولاي إسماعيل جمع الأوداية المتفرقين في مراكش ونواحيها وغيرها من المناطق، وأسس بهم جيشاً، وكان يعتمد عليهم ويثق بهم، لأن والدته تنحدر منهم.
وحسب كتاب "مَعلمة المغرب"، فقد مكَّن السلطان هذا الجيش من وسائل القوة، وضبط مدينة فاس، حيث أسكنهم فاس الجديدة، ومكَّنهم من استغلال أراضٍ في سهل سايس، حتى إنهم كانوا يهددون في أثناء فترة حكم أولاد المولى إسماعيل ما بين 1727 و1757، بقطع الماء والمؤن عن العاصمة فاس.
ويضيف المصدر نفسه أنه مع تزايد طغيانهم، عمِل السلاطين فيما بعد على إضعاف شوكتهم مع الإبقاء على استعمالهم، غير أنهم تمردوا في عهد السلطان مولاي عبد الرحمن العلوي، وهاجموا فاس العاصمة حتى إن السلطان لجأ إلى مكناس واستنفر قبائل الغرب في مواجهتهم، وما لبث أن صالَحهم بشروط.
وقد عمد السلطان عندما واتته الفرصة، إلى تشتيتهم في مناطق مختلفة، ونقل فرعاً منهم إلى رباط الفتح.
يقول لحرش إن السلطان عبد الرحمن أرسل سنة 1838، جزءاً من قبيلة لوداية إلى الرباط؛ تأديباً لهم، وكلَّفهم بعد ذلك بحماية الواجهة البحرية، فاستقر القياد في مداخل القلعة، أما الجنود فسكنوا خارجها.
ومقابل خدماتهم العسكرية، مُنحوا أراضي فلاحية تمتد من الرباط إلى مدينة تمارة قصد استغلالها والانتفاع بها، وهي الأراضي التي توارثها أحفادهم عبر قرون.
الأرض للدولة وما فوقها للسكان
وُلد المغربي عبد الهادي الهيلالي في بيت من بيوت قصبة لوداية قبل خمسة عقود، سكن والداه وأجداده فيها أيضاً، فهم ينحدرون من قبيلة لوداية، وجده لأمه واسمه القائد علال، كان أحد القادة في جيشها.
يقول عبد الهادي، وهو عضو في جمعية فضاء لوداية، لـ"عربي بوست"، إن المنازل في القصبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، منها قسم علوي يطل على المحيط الأطلسي وهو الجزء القديم فيها، وقسم في الوسط يضم محلات تجارية، وقسم سفلي وفيه زنقة بازو وهي منطقة جديدة.
ويؤكد المتحدث أن السلاطين العلويين منحوا قادة وجنود قبيلة لوداية حق السكن واستغلال الأراضي في القصبة وخارجها، وهو الحق الذي ورثه أبناؤهم وأحفادهم إلى اليوم.
ويضيف أن الأرض في قصبة لوداية تابعة لما يسمى الأملاك المخزنية أو أملاك الدولة، وكان السكان المقيمون بها يؤدون مقابل الكراء 30 درهماً للسنة قبل أن تسقطها الدولة عنهم، فيما يمتلك أصحاب المنازل ما يسمى حق الزينة.
ويعتبر حق الزينة أحد الحقوق العُرفية الإسلامية، تنطبق عليه أحكام الفقه الإسلامي وما ينص عليه القانون رقم 08-39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية.
ويطبق هذا المفهوم في الغالب على العقارات المحبسة التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وأملاك الدولة الخاصة، والتي تدبرها مديرية أملاك الدولة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية.
وعرَّف القانون المغربي حق الزينة في الفقرة الأولى من المادة 131 من مدونة الحقوق العينية، بقوله: "الزينة حق عيني يخوّل صاحبه ملكية البناء الذي شيَّده على نفقته فوق أرض الغير. ينشأ هذا الحق بالعقد مع تشييد البناء وينتقل بالشُّفعة أو بالإرث أو بالوصية".
غير أن من حق أصحاب البيوت بيعها متى شاؤوا، ويخضع المُلاك الجدد للقوانين نفسها.
وحسب عبد الهادي الهيلالي فقد توقف البيع والشراء بالقصبة في فترة كانت فيها وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق تعتزم إنشاء مشاريع فيها، وبعد التراجع عن الفكرة عادت الأمور إلى حالها.
ويوضح أن العديد من سكان القصبة الأصليين باعوا بيوتهم لأجانب ومغاربة بأثمنة باهظة بالنظر إلى كونها تقع في منطقة تاريخية وتطل على وادي أبي رقراق والمحيط الأطلسي.
ترميم المنازل وإعادتها لأصلها
وتخضع منازل قصبة لوداية ودكاكينها وساحاتها، حسبما عاين موقع "عربي بوست"، لعملية ترميم واسعة تهدف إلى إعادة واجهاتها إلى الشكل الأصلي، وذلك في إطار برنامج تشرف عليه وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق بالتعاون مع وزارة الثقافة.
يقول محافظ موقع "شالة ولوداية" مصطفى الرمضاني، إن مشروع ترميم قصبة لوداية بدأ منذ سنوات، إذ خضعت الأسوار التاريخية ومقهى لوداية أو المقهى الموريسكي، والحديقة الأندلسية والمتاحف والأبواب للترميم، وتجري حالياً أشغال تدعيم جدران بعض البيوت التي ظهرت فيها شقوق، وترميم المنازل لإعادة الاعتبار لها.
لذلك سيتم في إطار عملية الترميم، إعادة واجهات المنازل إلى شكلها الأصلي باللون البني عوض اللونين الأبيض والأزرق الذي كان السكان اتخذوه في السنوات الأخيرة لوناً لواجهات منازلهم.
وأوضح أن المنازل الموجودة حالياً في القصبة بُنيت على مراحل مختلفة، وأقدمها يعود تاريخه إلى بداية القرن العشرين.
وأشار إلى أنه منذ تصنيف الرباط تراثاً عالمياً سنة 2012، لا يمكن للسكان بموجب هذا التصنيف إحداث أي تغيير في تلك البنايات أو هدمها أو إعادة بنائها أو بناء بيوت جديدة، بل ينبغي الحفاظ على القصبة وكل المباني داخلها وفق شكلها الهندسي الأصلي الذي تُظهره الوثائق والصور المتوافرة.
عربي بوست