يكتبها: خالد نواف البطاينة
بعد شهور طويلة عجاف، وقليل من النهارات المتفائلة، أطل علينا العام الجديد شاحبا مترنحا من فرط المعاناة التي كابدها توأمه العام المنصرم!. ومع هذا؛ هللنا ورقصنا وتعانقنا.. حتى فاحت الروائح في أنفاسنا عن يمين وعن شمال.
فما بين الشائعة والجائحة، عشنا أياما ثقيلة. دمعت القلوب قبل أن تدمع العيون، بعد أن تمادينا في خنق أحلامنا، ووأد صفائنا ووفائنا، واستبدلناها بعد أن جندلناها، بضحكات هستيرية صاخبة.
وكأن النهار ليس لنا، ولسان حالنا يقول تباً لكِ أيتها الأيام، إن كان فيكِ حتى خيط من ضوء.
زوّرنا أرواحنا،
زوّرنا الحقيقة، ونزعنا منها أحرف القاف، فبتنا نخشاها، ونلتف عليها لقتلها.
وزوّرنا قناديلنا،
حتى فاض إسرافنا على جنبات العتمة.
فهل أدركنا أخيرا، أننا نحب الظلمة، ونكره القمر والشمس، لأنهما يكشفان عورات الذات المتعاظمة فينا؟!.
والأدهى من ذلك، أننا زوّرنا إنسانيتنا، بل سرقناها!!، وصارت الرذيلة، عند البعض، من عديمي الضمير، ناموسا للأخلاق، والغدر سمة للشطار، الذين يظنون أن خديعتهم ونذالتهم وخستهم، وحكاياهم الألف وفواحشهم الليلية، ستنطلي على كل ذي شهامة ونبل ومروءة!! تالله، ما أقبحهم، وما أرذل فعالهم، وصنيع أعمالهم.. آلا تبت أياديهم وأقدامهم. الزمن كفيل بأن يميط اللثام عن أكاذيبهم وأباطيلهم وغيهم، وأن يكشف حقيقتهم وسوء نياتهم.
يا لتمادينا، نصر على الابتعاد مسافات طويلة عن حكمة المبادئ وماهيتها، ومنظومة الأخلاق ومنطقيتها، بحجة واهية؛ نحر آلامنا والتخلص من حسراتنا، والانغماس أكثر في كلمتين (لا يعنيني ولا تعنيني)!!، فبتنا – والحال كذلك - نمشي على رؤوسنا لا على أقدامنا، ونرتدي ملابسنا بالمقلوب، ونعيش لحظاتنا وأيامنا حرابا.
بتنا نحس أننا كمن يعيش في واد غير ذي زرع، حسراتنا محفورة على أحجار، فضاعت أقدامنا، وتكسرت كأنها فخار.. وتبدد النبل فينا، بعد أن ذرته الرياح... لقد تكالبنا على الدنيا بجهاتها الأربع، وطوينا المسافات حتى نعبرها على نحو لا يليق بإنسانية الإنسان، ونسينا أن الدرب مهما طال، إلا أنه يبقى قصيرا، وله نهاية.
هل مللنا الشكاية؟
ونحن نخطو أولى درجات سلم العام الجديد، نتطلع حوالينا، بأنفاس متعبة. نشخص بأبصارنا في كل الجهات، نسترجع كومة من التفاصيل، ويجوب الوجدان تلك الأيام التي مضت إلى غير رجعة، ونستذكر وجوها ووجوه، ولحظات ولحيظات، فهل سنبقى نمضي بأقدامنا المتعبة صوب الاشتعال بمآرب أخرى؟. هل ستبقى الشكاية غيمتنا المنتظرة؟ ما أجرأنا على أنفسنا!.
هل نعتزل التفاؤل، وروح المحبة، حتى تصير لحظاتنا صحراء قاحلة، ونكوّم في قلوبنا جبالا من الحسرات.. لماذا هذه القسوة بحق سنابل أعمارنا، ولماذا هذا التيه في الطريق، والشمس تأتينا من الشرق؟!.
لماذا لا نصدق أبدا أنه "حين ظهر القلب ظهر الإنسان"، وحينما ظهرت الأكاذيب ظهرت الحقائق، وحينما بزغت الخيانة والرداءة والرذيلة، ظهر الشرف الرفيع والكرامة وأينعت الفضيلة.
نلوح لعام مضى مودعين.. ونستقبل عاما جديدا مهللين، ونحن نعي وندرك ونعرف حق المعرفة، بأن الزمان ما عاد فيه كلأ ولا ماء، بل هي الغربة حتى عن النفس. الذاكرة ممتلئة بالتفاصيل، والوجوه العارية إلا من نذالة أصحابها.
ظهر الفاسدون المفسدون، يتشدقون بالكلام الفارغ الأجوف، بحثا عن غنيمة هنا، وصرة هناك، وفريسة بينهما، يبثون سمهم الزعاف في كل الزوايا والحنايا، حرباويون يتلونون حسبما تقتضيه حاجة نفوسهم الأمارة بالسوء. يطلون برؤوسهم مثل الفئران، وعيون جاحظة كالبوم.. يتباكون على كرسي هجرهم، وتبرأ منهم، بعد أن لوثوه ودنسوه، وبعد أن ضاق ذرعا بمكائدهم وهرجهم ومرجهم. يتباهون بثعلبيتهم وقدرتهم على نيل المطالب ولو بالتمني. يدلفون إلى دارة فلان وعلان، يطلبون العون والوساطة والتزكية، للعودة إلى كراسيهم الأثيرة، كي يتمتعوا من جديد بالمزايا، وهم أصحاب الرزايا. إنهم بالفعل، ذئاب على هيئة بشر!!.
يخرجون علينا، كلما تنفس الصبح، عبر وسائل التواصل، بمقولة مسروقة، ونظرية اسطوانتها مشروخة.. يشبعوننا بطولات دونكيشوتية، ويبيعون لنا أوهاما وسرابا، لا تجدها في سوق، إلا في أسواق نجاستهم ودناءتهم. هم لا يعرفون أن زمنهم ولى واندثر، وماضيهم – يا لماضيهم القذر - سيبقى حاضرا ومسلطا كالسيف على رقابهم. وإن حانت لحظة الكشف، فسيتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولما تنجلي الحقيقة، فإن رائحتهم النتنة ستزكم الأنوف.
هناك فرق بين حراس الفضيلة، وبين أولئك المنغمسون حتى آذانهم في الرذيلة. الفضيلة أن تكون نقيا تقيا، صاحب خلق وضمير، والرذيلة أن تكون آفاقا كذابا، دربك الخيانة والفجور.
أحدهم، وحاله كحال البعض ممن هم على شاكلته؛ انتهازي مخادع، باع الوفاء بالغدر، ويختبئ في الوحل، بعد أن كشفته الأقدار، وتكشّف السوء في نواياه وأفعاله.. ومع هذا، لا زال يخرج على الناس، بوجهه المصفر خشية الحقيقة الفضيحة، يتباهى بأحلامه الدنيّة، وأسئلته الغبية. يقال بأنه يسوّق نفسه على أنه قامة .... !! يا للعار!!، ولن أزيد.
فعذرا أيها العام، وعذرا من أصحاب الضمائر الحية، والقلوب النقية، ولا عذر من كل مشاء بغدر ونميم وردية. {قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.