مدار الساعة - أثناء الحرب الباردة انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في سباقات التسلح وغزو الفضاء، وأصبحت المعارك بين الطرفين جزءًا معروفًا ومُوثَّقًا من تاريخ العالم خلال القرن العشرين، لكن سباقًا بينهما لا يزال أقل شهرة وأكثر غموضًا ويتعلق بأبحاث غير تقليدية في مجال الباراسيكولوجي.
ويدور الباراسيكولوجي حول مجموعة متعددة من الظواهر النفسية، من بينها التخاطر، والتنبؤ بالمستقبل، وتجارب الخروج من الجسد، وغير ذلك من الأمور الخارقة التي تتجاوز العقل، لكن على الرغم من عدم عقلانيتها سعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي إلى إجراء العديد من التجارب والدراسات عليها، بهدف استخدام تلك القدرات الخارقة للسيطرة على العقل البشري، فما هو الباراسيكولوجي؟ وإلى أين وصل هذا العلم الآن؟ هذا ما نجيبك عنه في هذا التقرير.
الباراسيكولوجي.. من التخاطر إلى القدرة على تحريك الأجسام عن بُعد
الاعتقاد في القدرات النفسية الخارقة قديم ومتجذر في التاريخ الإنساني، لكن تلك الظاهرة لم تدخل حيز الدراسة العلمية قبل عام 1930، وذلك عندما أجرى عالم النبات، جوزيف راين، وزملاؤه في جامعة «ديوك» الأمريكية عدة دراسات على عملية الإدراك خارج الحواس، أي القدرة على معرفة شيء بعيدًا عن الإدراك الحسي، مثل التخمين، والتي كانت حجر الأساس لنشأة ما يسمى بـ«علم التخاطر».
حينذاك، بدأت الدراسات النفسية تتضمن كل ما هو خارق للطبيعة، مثل التواصل مع الأرواح وطرد العفاريت والتخاطر بالطبع، كما شملت الأبحاث من لديهم القدرة على تحريك الأجسام عن بُعد باستخدام عقولهم، ومنذ عام 1930 جذبت هذه الظواهر اهتمام العلماء الجادين، كما حازت الدعم المؤسسي الذي مكن العلماء من التوسع في بحث تلك الظواهر بشكل أكثر عمقًا، لتصبح الخوارق موضوعًا للعديد من التجارب العلمية.
ومع حلول منتصف الثلاثينيات أصبح راين رائدًا في علم التخاطر، وقد أسس لمصطلح «الإدراك الحسي الفائق»، والذي يشبه حيازة عيون عقلية (أشبه بالعين الثالثة) بوسعها إدراك الشيء بما يتجاوز عمل الحواس الطبيعية.
ودخل الاستبصار والتنبؤ بالمستقبل في ذلك الوقت ضمن نطاق أبحاث راين، الذي اعتقد أن الإدراك الحسي الفائق بوسعه إثبات أن البشر متجاوزين للجسد المادي الفاني، ومن ثم فإن هناك جزءًا منا لا ينتهي بمجرد موت الجسد، فكانت أطروحته أشبه ببحثٍ عن الحياة بعد الموت.
وتبنى راين في دراساته وتجاربه برنامجًا منهجيًّا لتحديد الظروف التي تحدث فيها الظواهر الخارقة، وإلى أي مدى قد تصل، بدلًا من مجرد محاولات إثبات وجودها، وهو ما أضفى الشرعية الأكاديمية والعلمية على علم التخاطر حينذاك، وعندها عمل جوزيف راين على تأسيس مركز أبحاثه الخاص والمستقل، كما أسس «مجلة الباراسيكولوجي» عام 1937، وجمعية الباراسيكولوجي عام 1957، وهي مؤسسة تُعنى بالنهوض بعلم التخاطر، ونشر المعرفة في هذا المجال.
سباق السوفيت والأمريكان على التحكم في العقل البشري
خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، اعتقد الطرفان أنه يمكن للبشر أن يطوروا قدرات خارقة للطبيعة من قراءة العقول والتحكم بها إلى إبطاء الوقت وتسريعه وتغيير شكل الأجسام، تمامًا مثل أفلام الخيال العلمي، ومن هذا المنطلق اعتقدت القوتان العالميتان حينذاك أن بإمكانهما استخدام السحر والتنجيم لكسبِ الحرب.
في هذا الوقت اتجه العلماء لدراسة الوسطاء الروحيين والسحرة من «الشامانيين» المعاصرين (نسبةً إلى عقيدة قديمة تؤمن بالسحر)، وهؤلاء ممن يعتقدون أن لديهم قدرات خارقة مثل الاختفاء أو القدرة على تحريك الأجسام بعقولهم، ولأن وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت ترد إليها تقارير بخصوص تجارب السوفيت في هذا المجال، فقد دعمت تلك التجارب العلمية.
وفي أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، بدأ برنامج تدريبي جديد للمحاربين الأمريكان، يعتمد على تدريبهم روحانيًّا لامتلاك قدرات مثل الاستبصار والتنبؤ بالمستقبل والاختفاء، وعندها رصد البنتاجون ميزانية صغيرة للبحث العلمي في مجال الخوارق، وذلك لاستخدام أساليب العصر الجديد في الحرب الباردة، فحينها كانت المخابرات الأمريكية تسعى لتطوير ما يعرف بـ«الجاسوس الشبح» وهو شخص بإمكانه رؤية ما يحدث في أي مكان في العالم بالوقتِ ذاته، فبمجرد أن يطلع على صورةٍ لمكانٍ ما، يستطيع أن يصف النشاطات التي تجري فيه.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل مولت وزارة الدفاع الأمريكية تجارب صنع «محاربين روحانيين»، وفي معهد ستانفورد للأبحاث كان هناك فريق كامل من الوسطاء الروحانيين، الذين سعوا لمعرفة مواقع الصواريخ السوفيتية على طريقة المنجمين، وتشير «الجارديان» البريطانية إلى أن توقعاتهم كانت في بعض الأحيان تصيب.
وفي عام 2017 عندما رفعت الولايات المتحدة السرية عن 12 مليون ورقة من التقارير العلمية التي تخص إحدى مشروعات الإدراك الحسي الفائق التي دعمها جهاز المخابرات، وهو مشروع «ستار جيت» الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي واستمر حتى إغلاقه عام 1995، وحتى ذلك الوقت كان الوسطاء الروحانيون يعملون على تحديد أماكن الرهائن لدى الجماعات الإرهابية، إلى جانب تتبع مسارات المجرمين داخل الولايات المتحدة.
وبالنسبةِ إلى الروس، لم يكن الأمر مقتصرًا على قدرات التنبؤ الروحانية؛ إذ سعوا لتطوير قدرات خاصة تمكن البشر من القتلِ بعقولهم، كما وصل بهم الحال إلى تكوين نسخة طبق الأصل من المكتب البيضاوي بالبيتِ الأبيض في روسيا، يجلس فيه أشخاص يوميًّا 24 ساعة كاملة، في محاولةٍ للتحكم بعقل رئيس الولايات المتحدة.
فقد كانت تجارب السوفيت تهدف غالبًا للتحكم في العقل عن بُعد، كما سعوا لإثبات «الإدراك الحسي الفائق»، وفي إحدى هذه التجارب، عملوا على زرع أقطاب كهربائية في دماغ أرنب (أم)، ونزلوا بأطفالها في غواصة إلى عمق معين، حينها قتلوا الأرانب الصغيرة واحدًا تلو الآخر، وهم يراقبون رد فعل دماغ الأم على قتل أبنائها.
وعدَّ السوفيت علم التخاطر مجالًا متعدد التخصصات، وعكفوا على ربطه بعلوم الفيزياء الحيوية وعلم النفس والإلكترونيات وعلم النفس العصبي، وكان التحكم في الوعي البشري والتلاعب به هدفًا رئيسيًّا لهذا العلم، وقد أجروا تجاربهم بمنشأة علمية ضخمة أطلقوا عليها «مدينة العلوم» في منطقة نائية غرب سيبيريا.
وفي المدينة كان يوجد أكثر من 40 مركزًا علميًّا، بينهم مركز غامض، يسمي «القِسم 8»، ويخضع لحماية مشددة، وداخل تلك المنشأة الغامضة كان هناك نحو 60 عالمًا مهمتهم الأساسية البحث في مجال التخاطر والتأثير عن بُعد الذي أطلقوا عليه «الاتصالات الحيوية».
ولجعل ذلك ممكنًا سعى الفيزيائيون إلى اكتشاف طبيعة الظواهر النفسية الخارقة عن طريق دراسة الفوتونات الحيوية، وهي الفوتونات التي تشعها الخلايا الحية، ولتحقيق ذلك استخدموا رهبان التبت البوذيين والسحرة الشامانيين لما يتمتعون به من قدرات نفسية، حسب اعتقاد السوفيت.
وأنفق الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت أكثر من مليار دولار على البحث في الظواهر الخارقة، قبل أن يُغلق «قسم 8» الغامض عام 1969، وأغلب هذه التجارب يجري التعامل معها حتى يومنا هذا بوصفها أسرار دولة؛ وذلك على الرغم من مرور ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة.
عندما استخدم «الموساد» الباراسيكولوجي
لم تكن المخابرات الأمريكية والسوفيتية وحدهما من حاول استخدام القدرة الخارقة المفترضة للعقل البشري أو الباراسيكولوجي، من أجل كسب حروبهما في سبعينيات القرن الماضي، بل إن هناك الكثير من الدول التي حاولت أن تواكب علم العصر حينذاك – الباراسيكولوجي- وتستخدمه في عملياتها العسكرية، ومن بينها إسرائيل.
فوفقًا لوثائق الـ«سي آي إيه» فقد أقنع الإسرائيلي يوري جيلر، وهو من مواليد تل أبيب، المخابرات الأمريكية بقدراته الخارقة، وعمل بعدها عميلًا سريًّا لوكالة المخابرات المركزية والموساد الإسرائيلي في الوقتِ ذاته، واشتهر جيلر حينها بقدرته على لَي المعادن، هذا إلى جانب قدرة حسية هائلة استخدمها في تعطيل الرادارات.
وفي هذا السياق يُروى أن يوري جيلر كان له دور مهم في عملية عنتيبي عام 1976، وهي واحدة من أشهر عمليات تحرير الرهائن التي نفذتها القوات الإسرائيلية بعدما اختطف فلسطينيون من جبهة التحرير الفلسطينية طائرة فرنسية كانت متجهة من مطار بن جوريون في تل أبيب إلى باريس، واتجهوا بهم إلى مطار عنتيبي بأوغندا.
وتُرجع بعض المصادر سبب نجاح تلك العملية إلى مهارة الطيارين الذين تمكنوا من التحليق فوق سماء أوغندا دون أن تتمكن الرادارات من رصدهم، لكن هناك روايات غير معترف بها رسميًّا عن استخدام يوري جيلر قدراته الحسية في حجب أجهزة الرادار وتعطيلها أثناء تنفيذ العملية، لكن عندما سُئل جيلر عن صحة الواقعة، قال إنه ملتزم بقواعد السرية ولا يمكنه نفي أي شيء أو إثباته بخصوص عملية مطار عنتيبي، بحسب «الإندبندنت» البريطانية.
هل ما زالت أجهزة المخابرات تستخدم الباراسيكولوجي؟
استمرت شهرة الباراسيكولوجي في الأوساط العلمية حتى عام 1995 عندما أغلقت الولايات المتحدة الأمريكية مشروعها لدراسة الخوارق «ستارجيت» وحينها أعلنت الحكومة الأمريكية في التقارير الرسمية فشله في إثبات وجود ظواهر نفسية خارقة من الأساس، لكن على الرغم من ذلك، ظلت أبحاث القدرات الخارقة مستمرة حتى يومنا هذا.
خفوت نجم الباراسيكولوجي في الأوساط العسكرية، وعدم وجود وثائق كافية تخبرنا عن مدى استخدامه في يومنا هذا، سواء في روسيا التي ما زالت تتحفظ على سرية أغلب الوثائق أو في الولايات المتحدة، لا يعني انتهاء هذه الأبحاث تمامًا، فواحدة من أحدث الدراسات المنشورة في هذا النطاق ظهرت عام 2014 لمكتب الأبحاث البحرية الأمريكي الذي أطلق برنامجًا مدته أربع سنوات، بميزانية قدرها 3.85 مليون دولار، لاستخدام الحدس أو ما يوصف بالحاسة السادسة بين البحارة ومشاة البحرية.
ومن أجل ذلك استضاف مكتب البحوث البحرية (ONR) خبراء بارزين في العلوم العصبية والسلوكية لمزامنة دراساتهم عن الحدس وتحويل نتائجها إلى برامج يمكن تطبيقها على العسكريين، ورغم ذلك يشير الباحثون إلى أن أبحاثهم في هذا المجال لا يمكن اعتبارها ضمن نطاق القدرات الخارقة، وأن هدفهم هو تدريب البحارة ومشاة البحرية على استخدام الحدس غريزةً طبيعية في المواقف التي يحتاجون فيها إلى التصرف بسرعة وذكاء.
وفي عام 2015 صرَّح إدوين ماي، وهو رئيس الأبحاث السابق لمشروع «ستارجيت» لـ«موقع نيوزويك»، بأن أحدث دراسة له بتمويل من مؤسسة «بيال» العلمية غير الربحية، قد تكون أفضل تجربة في تاريخ هذا المجال، وقد ناقشت الدراسة الاستبصار بوصفه طريقة غير نمطية للحصول على المعلومات مسبقًا من نقطة مستقبلية في الزمكان.
واستخدم ماي منظورين لدراسة الاستبصار، أحدهما فيزيائي يشير إلى إمكانية الارتداد المسبق، بمعنى كيفية تنقل المعلومات من نقطة إلى أخرى في الزمكان، والثاني: منظور علم الأعصاب، والذي تناول القدرة على استقبال تلك الإشارات المرتدة وتفسيرها.
وعلى الرغم من أن أغلب العلماء حاليًا يعدون الباراسيكولوجي من العلوم الزائفة، فإن أبحاث التخاطر لم تتوقف حتى الآن، ويشير الأكاديميون المؤمنون بصحة هذا العلم إلى أن مهمة إثبات وجود ظواهر فوق طبيعية من عدمه أمرًا صعبًا ويخضع لمعايير أعلى من المعتاد إذا أردنا إضفاء الشرعية عليه نسبةً إلى بقية العلوم، وهو ما يزيده غموضًا.