مدار الساعة - مع تفشي جائحة فيروس كوفيد-19 في العالم العام الماضي، تحوَّلَت الشركات بصورةٍ متزايدة إلى الأتمتة من أجل التعامل السريع مع تغيُّر الظروف. أُدخِلَت روبوتات بديلة للبشر لتنظيف الأرضيات والتطهير من الميكروبات في المستشفيات والمتاجر وغيرها.
ووجدت بعض الشركات أنه نظراً للتركيز الجديد على النظافة والتباعد الاجتماعي، فإن العمليات الروبوتية توفِّر ميزةً تسويقية. بدأت سلسلة الوجبات السريعة الأمريكية وايت كاسل باستخدام روبوتات لطبخ الهامبرغر في محاولةٍ لخلق "وسيلةٍ لتقليص الاتصال البشري بالطعام أثناء عملية الطهي"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
بطالة ووظائف شاغرة في الوقت ذاته
في أسوأ أيام الجائحة، أصبحت قصة الوظائف مُعقَّدةً بشكلٍ غير مُتوقَّع؛ ففي حين أن معدَّلات البطالة الإجمالية لا تزال مرتفعة، تعاني كلٌّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من نقصٍ واسعٍ في العمالة، ويتركَّز هذا النقص بصورةٍ خاصة في تلك الوظائف التي هي أكثر ميلاً نحو ظروف العمل المرهقة والأجور المنخفضة نسبياً.
وحتى مع بقاء ربع مليون عامل بريطاني، شغلوا وظائف سابقاً في العام 2019، عاطلين عن العمل، ارتفعت الوظائف الشاغرة بنسبة 20% عن مستويات ما قبل الجائحة، حيث يكافح أصحاب العمل لشغل العديد من الوظائف.
ليست الأسباب الكامنة وراء نقص العمالة واضحة تماماً. ويتمثَّل الافتراض الشائع في أن المدفوعات الممتدة المُقدَّمة للعمال المُسجَّلين سمحت للناس بالبقاء خارج القوة العاملة. ومع ذلك، تشير أدلةٌ من عددٍ من الولايات الأمريكية التي تحرَّكَت لإيقاف إعانات البطالة مبكِّراً إلى أن المدفوعات الممتدة ربما لم يكن لها دورٌ رئيسي. ربما يكون الكثير من العمال قد أعادوا ببساطة تقييم رغبتهم في القيام بوظائف صعبة وغير مُجزِية في الكثير من الأحيان مقابل أجرٍ منخفض.
في المملكة المتحدة، أدَّى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تفاقم الوضع بشكلٍ كبير، وما لا يقل عن 200 ألف من مواطني الاتحاد الأوروبي، معظمهم من أوروبا الشرقية، الذين شغلوا وظائف في مجالات الزراعة والنقل والخدمات اللوجستية، غادروا البلاد وقد لا يعودون أبداً.
روبوت لطيف لفحص الحشائش وآخر مخيف لقصها
كلُّ هذا خَلَقَ حافزاً قوياً للشركات من أجل الاستثمار في الأتمتة كوسيلةٍ للتكيُّف مع نقص العمال. وبينما تواجه المزارع البريطانية غياب العمال الموسميين الذين كانوا يتدفَّقون في السابق من أوروبا الشرقية، يتزايد الاهتمام بالروبوتات الزراعية.
على سبيل المثال، طوَّرَت شركة Small Robot Company الناشئة في المملكة المتحدة روبوتين قادرين على التخلُّص من الأعشاب الضارة في حقول القمح مع التقليل بشكلٍ كبيرٍ من استخدام المبيدات الكيماوية. يتجوَّل الروبوت الأول بشكلٍ مستقلٍّ في حقل قمح، وبدقةٍ كبيرة يرسم خرائط للمواقع الدقيقة التي بدأت فيها الأعشاب الضارة في الظهور. وبمجرد أن تُجمَع بيانات مواقع هذه الأعشاب، يتبعها روبوت ثانٍ مخيف بعض الشيء، له خمس أذرع، يقتل الأعشاب الضارة عن طريق توجيه صدمة كهربائية قوية لها.
قامت شركةٌ ناشئةٌ أخرى، وهي شركة Xihelm، التي تلقَّت تمويلاً من الحكومة البريطانية في عام 2018، ببناء روبوت قادر على حصد الفواكه والخضراوات الهشَّة في البيوت البلاستيكية.
على سبيل المثال، يمكن للروبوت قطف الطماطم بعناية باستخدام الذكاء الاصطناعي الذي يمكِّنه من تحديد الفاكهة الأنضج فقط.
روبوتات بديلة للبشر تطهو البطاطس والهمبورغر
وفي الولايات المتحدة، حيث أثَّر نقص العمالة على قطاع المطاعم بشكلٍ خاص، أدخلت سلسلة وايت كاسل أتمتة البطاطس المقلية للعمل جنباً إلى جنبٍ مع روبوتات الهامبرغر الجديدة، بينما استحوذت سلسلة مطاعم سويت غرين على شركةٍ ناشئةٍ توفِّر تكنولوجيا المطبخ الروبوتية. وتختبر مطاعم ماكدونالدز في منطقة شيكاغو نظاماً صوتياً يعمل بالذكاء الاصطناعي يمكنه التعامل مع طلبات العملاء في عمليات الدفع.
لا شكَّ أن الجائحة ونقص العمالة المرتبط بها يعملان على تسريع الدافع نحو نشر الذكاء الاصطناعي والروبوتات وأشكالٍ أخرى من الأتمتة. في المملكة المتحدة، يُضخَّم هذا الاتجاه بشكلٍ أكبر، لأن تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واضحٌ تماماً.
ومع ذلك، فإن الواقع هو أنه من غير المُرجَّح أن تصل معظم هذه التقنيات في الوقت المناسب لتقديم حلٍّ للتحديات الفورية التي يواجهها أصحاب العمل. على سبيل المثال، يظلُّ روبوت شركة Xihelm لقطف الطماطم في مرحلة الاختبار، والآلات ليست متاحةً بعد بشكلٍ عام للشراء.
المشكلة الكبرى في سائقي النقل
بعضٌ من أخطر حالات نقص العمالة في المملكة المتحدة تتجسَّد في قطاعات النقل والخدمات اللوجستية. وبحسب أحد التقديرات، تعاني البلاد حالياً من نقص 100 ألف سائق شاحنة على الأقل. وكما أُعلِنَ على نطاقٍ واسع، فقد أدَّى ذلك إلى نقصٍ في كلِّ شيء؛ من البنزين إلى مخفوق الحليب في ماكدونالدز.
لن تأتي أيَّ روبوتات لإنقاذ الموقف في الوقت القريب. وبينما تعمل العديد من الشركات الناشئة في وادي السيليكون وغيره على شاحناتٍ ذاتية القيادة، تظلُّ أمام هذه التكنولوجيا عدة سنوات لكي تصبح ذات جدوى تجارية. أضف إلى ذلك الوقت الذي تستلزمه الحكومات لصياغة اللوائح اللازمة أو ببساطة لجعل الجمهور يقبل فكرة الشاحنات المُحمَّلة بالكامل والتي تنتقل في الطرق المحلية دون سائقٍ بها على عجلة القيادة. وقد يكون الانتظار أطول من ذلك.
على مدار عقدٍ أو أكثر، من المُرجَّح أن يكون التأثير العام للذكاء الاصطناعي والروبوتات في سوق العمل كبيراً، وفي بعض المجالات المُحدَّدة قد تؤدِّي التقنيات إلى تغييرٍ جذري في غضون السنوات القليلة المقبلة. وسيواجه العديد من العمال قريباً حقيقة أن العقبات أمام تكنولوجيا الأتمتة لن تقتصر على المهن التي غالباً ما تكون منخفضة الأجر وأقل استحساناً، حيث يتركَّز نقص العمالة حالياً.
في الواقع، قد تُظهِر العديد من الوظائف التي يكافح أصحاب العمل لشغلها حالياً مقاومةً عاليةً للأتمتة. وفي الوقت نفسه، ستكون الوظائف ذات الأجور الأفضل، التي يرغب العمال بالتأكيد في الاحتفاظ بها، على مرمى البصر من الأتمتة مع استمرار تقدُّم الذكاء الاصطناعي والروبوتات قُدُماً.
هكذا أخذت روبوتات التخزين وظائف عمال المخازن
لنأخذ على سبيل المثال، مراكز التوزيع التي تديرها شركة أمازون أو شركة أوكادو لتجارة البقالة بالتجزئة عبر الإنترنت. مع تسارع التسوُّق عبر الإنترنت، أصبحت هذه المستودعات نقطةً مضيئةً للتوظيف، حيث وفَّرَت فرص عملٍ لآلاف العمال. قبل أقل من عقدٍ من الزمان، كان من الممكن تشغيل منشآت من هذا النوع من قِبَلِ مئاتٍ من العمال الذين يتنقَّلون باستمرارٍ بين الأرفف العالية التي تحمل آلاف العناصر المختلفة. كان من الممكن أن يشمل العمال فئة "المودعين"، الذين يُكلَّفون بأخذ المخزون الذي وصل حديثاً وتخزينه على الأرفف، بينما تكون فئة "الملتقطين" هي المسؤولة عن أخذ العناصر من على أرفف التخزين من أجل تلبية طلبات العملاء. كان من الممكن أن يتحوَّل النشاط إلى تدافعٍ جنوني مستمر، ربما يشبه عشَّ النمل المضطرب، حيث يمكن للعامل العادي أن يقطع عشرات الأميال أو أكثر خلال دوام يومٍ واحد من العمل.
في مراكز التوزيع الأكثر تقدُّماً اليوم، أصبح العمال الآن هم الذين يقفون ثابتين في قيامهم بإيداع البضائع والتقاطها، بينما تتسارع أرفف التخزين وتُنقَل بين الوجهات المختلفة بواسطة روبوتات مستقلة. تدير أمازون أكثر من 200 ألف من هذه الروبوتات في مراكز التوزيع الخاصة بها في جميع أنحاء العالم، بينما توظِّف أوكادو أكثر من ألف روبوت من هذا النوع في منشأةٍ واحدة في مقاطعة هامبشاير البريطانية.
ولكن من حسن الحظ لم يفقد العمال وظائفهم
تواصل شركاتٌ مثل أمازون وأوكادو توظيف قوى عاملة بشرية ضخمة إلى حدٍّ كبير، لأن الروبوتات حتى الآن غير قادرة على أداء عمليات التخزين والالتقاط التي تتطلَّب إدراكاً بصرياً ومهارةً لدى الإنسان، حسب تقرير صحيفة The Guardian.
ومع ذلك، من المؤكَّد أن هذا سيتغيَّر. تعمل كلتا الشركتين، بالإضافة إلى عددٍ من الشركات الناشئة المُمَوَّلة تمويلاً جيِّداً، على بناء روبوتات أبرع. وقال الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، جيف بيزوس، متحدِّثاً في مؤتمرٍ عُقِدَ عام 2019: "أعتقد أن استيعاب الروبوتات سيكون مشكلةً محلولة في السنوات العشر المقبلة". بعبارةٍ أخرى، من المُحتَمَل أن يصبح عددٌ كبيرٌ من مئات الآلاف من العمال الذين يعملون الآن في هذه المنشآت زائدين عن الحاجة في المستقبل القريب نسبياً.
ومع تقدُّم الروبوتات، فإنها ستنتشر أيضاً بشكلٍ متكرِّرٍ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في المطاعم والمتاجر وغيرها".
..والموظفون يواجهون خطراً مماثلاً
وسيكتشف العاملون ذوو الياقات البيضاء الأكثر تعليماً بسرعة أنهم ليسوا استثناءً بأيِّ حالٍ من صعود الذكاء الاصطناعي. من المُرجَّح أن تقع أيَّ وظيفةٍ تنطوي على التحليل الروتيني نسبياً أو معالجة البيانات كلياً أو جزئياً على أتمتة البرامج.
على سبيل المثال، تستخدم بعض أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم بالفعل أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تنشئ مقالاتٍ إخبارية تلقائياً، بينما تقوم الخوارزميات القانونية الذكية بتحليل العقود والتنبؤ بنتيجة التقاضي. لقد بدأ الذكاء الاصطناعي بالفعل في إظهار موهبة برمجة الكمبيوتر الروتينية. وفي كثيرٍ من الحالات، يثبت العمل المعرفي أنه أسهل وأقل تكلفةً في التشغيل الآلي من العمل منخفض الأجر الذي يتطلَّب تعاملاً مادياً.
بينما تشكِّل التكنولوجيا المتقدِّمة مستقبلنا بعد الجائحة على المدى الطويل، ستُقسَّم القوى العاملة بصورةٍ متزايدة إلى فائزين وخاسرين. وسيكون الخاسرون هم أولئك الذين يركِّزون بشكلٍ كبيرٍ على المهمات الروتينية التي يمكن التنبؤ بها، بغض النظر عمَّا إذا كانت هذه الأنشطة جسدية أو فكرية بطبيعتها، وغالباً ما تكون غير ذات علاقة بالمستوى التعليمي.