مدار الساعة - استقالة عبد الله حمدوك رئيس الوزراء تضع الأزمة في السودان على مفترق طرق مرة أخرى، فهل تكون تلك الاستقالة سبباً في تعميق الأزمة أم تضع مزيداً من الضغوط على قادة الجيش وتسرع عملية الانتقال المدني؟
وبعد نحو أسبوعين من التسريبات والتكهنات بشأن وضع رئيس الوزراء الذي كان يوماً رمزاً للمدنية في السودان، أعلن حمدوك استقالته في خطاب متلفز مساء الأحد 2 يناير/كانون الثاني 2022: "قررت تقديم استقالتي لأفسح المجال وأرد الأمانة للشعب السوداني. حاولت قدر استطاعتي أن أجنب بلادي الانحدار نحو الكارثة".
وكان حمدوك، منذ توقيعه على اتفاق سياسي جديد مع قادة الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، قد فقد دعم القوى المدنية في السودان وأصبح يعتبر ضمن المعسكر التابع لقيادات الجيش الرافضين للانتقال إلى الحكم المدني.
وكان السودانيون قد استيقظوا، الإثنين الماضي 25 أكتوبر/تشرين الأول، على حملة اعتقالات، شملت رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
إذ قرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
ومنذ ذلك الوقت خرجت مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد، رفضاً لما وصفوه بالانقلاب العسكري، ونددت أغلب الدول الغربية بما حدث وقطعت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى المساعدات عن السودان، وتحول حمدوك إلى أيقونة الانتقال إلى الحكم المدني في البلاد، ورفع المتظاهرون صوره بينما أعلنت أغلب دول العالم أنها لن تتعامل إلا معه.
ووسط تقارير مكثفة عن وساطات تتم بين البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو من جهة وحمدوك، الموجود قيد الإقامة الجبرية، من جهة أخرى، شهد الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني رفع الإقامة الجبرية عن حمدوك بعد توقيعه على اتفاق سياسي جديد مع البرهان، عاد بموجبه إلى منصبه رئيساً للوزراء وأعاد البرهان مجلس السيادة الذي كان قد أعلن حله من قبل.
ونص الاتفاق السياسي الذي وقعه حمدوك والبرهان على 14 بنداً، أولها التأكيد على الوثيقة الدستورية لسنة 2019 والمعدلة في 2020، وأنها المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، وثانيها ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق بما يضمن مشاركة سياسية واسعة عدا حزب "المؤتمر الوطني" المحلول (حزب الرئيس المعزول عمر البشير). وهكذا بين ليلة وضحاها تحوَّل عبد الله حمدوك من رمز للديمقراطية في السودان إلى "خائن" انضم لمعسكر الانقلابيين من قادة الجيش.
لماذا أعلن حمدوك استقالته الآن؟
في استقالته التي أعلنها تليفزيوناً، أكد حمدوك أن "الثورة السودانية ماضية في غاياتها"، مشدداً على أن "النصر أمر حتمي"، دون أن يوضح وجهته المقبلة، واعتبر أن "حكومة الفترة الانتقالية (تم حلها في 25 أكتوبر/تشرين الأول) حققت إنجازات في عدة مجالات رغم العقبات (لم يحددها)".
"كان نهجنا دائماً هو الحوار والتوافق في حلحلة كل القضايا، نجحنا في بعض الملفات وأخفقنا في البعض الآخر". حمدوك أشار إلى أن قبوله بالتكليف كرئيس وزراء الفترة الانتقالية في أغسطس/آب 2019 كان على "أرضية اتفاق سياسي بين المكونين المدني والعسكري، كنموذج سوداني منفرد إلا أنه لم يصمد بنفس الدرجة من الالتزام والتناغم التي بدأ بها".
وأوضح حمدوك أنه "وقع الاتفاق السياسي (في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي) مع المكون العسكري في محاولة لإعادة مسار التحول المدني الديمقراطي وحقن الدماء وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين".
وشدد على أن "الكلمة الافتتاحية نحو الحل هي الركون للحوار في مائدة مستديرة تمثل فيها كل فعاليات المجتمع السوداني والدولة للتوافق على ميثاق وطني، لرسم خارطة طريق لإكمال التحول المدني الديمقراطي".
وربط تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية بين إعلان حمدوك استقالته في هذا التوقيت وبين ما تعرض له المتظاهرون السودانيون الرافضون للاتفاق السياسي بين حمدوك والبرهان. فقد أعلنت لجنة "أطباء السودان" (غير الحكومية)، الأحد، سقوط 3 قتلى في مظاهرات الخرطوم المطالبة بـ"الحكم المدني"، ولم يصدر تعليق رسمي حول قمع التظاهرات أو سقوط القتلى.
لكن سقوط قتلى في المظاهرات الرافضة لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول لم يكن المرة الأولى، إذ ارتفع عدد ضحايا تلك التظاهرات إلى 57 قتيلاً. وكانت مظاهرات شهدتها البلاد الخميس 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي قد شهدت سقوط 6 قتلى وإصابة المئات.
وفي المظاهرات التي اندلعت الأحد قبل ساعات من خطاب حمدوك أطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين في الخرطوم بعدما سار المحتجون نحو القصر الرئاسي
وكانت وسائل إعلام سودانية قد نقلت قبل أسبوع عن مصادر مطلعة، قولها إن حمدوك معتكف في منزله منذ أيام، و"أخطر طاقم مكتبه بأنه أبلغ المكون العسكري (في السلطة الانتقالية) باستقالته".
هل تنزلق الأوضاع في السودان إلى الأسوأ؟
استقالة حمدوك تزيد ولا شك من حالة الغموض إزاء المستقبل السياسي في السودان بعد ثلاث سنوات من الثورة الشعبية التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس المعزول عمر البشير.
وقال حمدوك إنه حاول دون جدوى التوصل إلى توافق بين الفصائل المنقسمة بشدة كان سيتيح استكمال عملية السلام الموقعة مع بعض الجماعات المتمردة في عام 2020 والتحضير لانتخابات في 2023، وأضاف: "لقد حاولت بقدر استطاعتي أن أجنب بلادنا خطر الانزلاق نحو الكارثة… ورغم ما بذلت كي يحدث التوافق المنشود والضروري للإيفاء بما وعدنا به المواطن من أمن وسلام وعدالة وحقن للدماء ولكن ذلك لم يحدث".
ويرى حاكم إقليم دارفور غربي السودان، مني أركو مناوي، أن استقالة حمدوك هي إحدى تجليات الأزمة السودانية، ويقول إنه "لا بديل عن الحوار" والاعتراف المتبادل بين مكونات البلاد.
إذ كتب مناوي في تغريدة على "تويتر" قائلاً إن "استقالة حمدوك واحدة من تجليات الأزمة السياسية والاجتماعية المتراكمة التي لم تفهمها القوى السياسية التي ورثت البلاد في زمن غفلة أغلب الشعب".
وأشار إلى أن "قول حمدوك في خطابه إن الأسباب وراء استقالته عدم توافق سياسي يجب أن يُفهم"، مضيفاً أنه "ما زال المشوار طويلاً، ولا بديل للحوار والاعتراف بالبعض".
ودعت وزارة الخارجية الأمريكية الإثنين 3 يناير/كانون الثاني القادة السودانيين إلى ضمان استمرار الحكم المدني، وقال مكتب الشؤون الإفريقية بالوزارة في تغريدة: "بعد استقالة حمدوك على القادة السودانيين تنحية الخلافات جانباً، والتوصل إلى توافق، وضمان استمرار الحكم المدني".
وأضاف: "يجب تعيين رئيس الوزراء والحكومة المقبلة تماشياً مع الإعلان الدستوري، لتحقيق أهداف الشعب في الحرية والسلام والعدالة"، وأكد المكتب على مواصلة الولايات المتحدة وقوفها إلى جانب الشعب السوداني في دفعهم من أجل الديمقراطية، وطالب بـ"وقف العنف" ضد المتظاهرين.
يعتبر محللون سياسيون في السودان أن استقالة حمدوك من منصبه كانت بمثابة الأمر الحتمي، رغم الجهود التي بذلتها أطراف محلية ودولية، لثنيه عن قرار استقالته، ويرى هؤلاء أن بقاء الرجل في منصبه كان في حكم المستحيل، خاصة بعد اتفاق الشراكة الذي وقعه مع البرهان، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
هل أنهى الاتفاق السياسي دور حمدوك؟
كان الاتفاق قد لقي رفضاً واسعاً من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي الكتلة المدنية الرئيسية التي قادت الاحتجاجات المناهضة لعمر البشير، ووقعت اتفاق تقاسم السلطة، في العام 2019 مع الجيش، كما لقي رفضاً أيضاً من تجمع المهنيين السودانيين، الذي وصفه بأنّه "خيانة لدماء الشهداء"، وأكد أنه "مرفوض جملة وتفصيلاً"، واصفاً إياه بأنه "انتحار سياسي" لرئيس الوزراء حمدوك.
ويبدو أن دخول حمدوك في اتفاق مع المكون العسكري، مثل بداية النهاية لدوره الذي قاده بمهارة، في إحداث تحول هادئ في السودان، إذ يعتبر محللون أن الرجل لم يتمكن من حشد دعم شعبي لاتفاقه مع البرهان، في وقت فقد فيه دعم القوى السياسية المؤيدة له في الشارع، والتي اعتبرت الاتفاق "محاولة لشرعنة الانقلاب"، وتعهدت بمواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق الحكم المدني الكامل.
وبقدر ما شغلت التسريبات بشأن استقالة حمدوك، أطرافاً داخلية واقليمية ودولية، فإن تقييم تداعيات استقالة الرجل جاءت متباينة إلى حد كبير، ويعتبر جانب كبير من المتظاهرين، والقوى التي تحرك الشارع السوداني، وعلى رأسها تجمع المهنيين السودانيين، أن استقالة حمدوك ستفسح الطريق أمام الثورة السودانية، وأنها ستنهي "وهم الشراكة بين المدنيين والعسكر"، وستضيف زخماً لحراك الشارع، حتى إنهاء دور العسكر في الحكم بشكل كامل، وتنصيب حكم مدني خالص في البلاد.
غير أن محللين يرون أن الأخطار الناجمة عن استقالة حمدوك، ربما تفوق ما يراه البعض كإيجابيات من وجهة نظر ضيقة، ويعتبر هؤلاء أن خروج حمدوك من المشهد سيدفع إلى تفرد المجموعة الانقلابية بالسلطة، وفرض الأمر الواقع، ولا يستبعد هؤلاء أن يتزايد الاحتقان في الشارع السوداني، بما قد يؤدي إلى انفلات للعنف في البلاد في ظل ضعف قبضة الحكومة.
وتتحدث تقارير عن أن خروج حمدوك من المشهد السياسي، في اللحظة الراهنة، يمثل شهادة وفاة للاتفاق الموقع بينه وبين البرهان، وأن المشهد في السودان ربما يتحول في الأيام القادمة، إلى مواجهة مباشرة بين المكون العسكري بكل قوته من جانب، والشارع السوداني الجامح والقوى التي تقود حراكه من جانب آخر، في ظل مؤشرات تدل على أن أياً من الطرفين لا يريد التراجع عن مواقفه.
وكان المكون العسكري قد أبدى، مؤخراً، استعداداً للمضي حتى النهاية في أسلوبه القمعي، في التعامل مع حراك الشارع، بعد إصدار الفريق البرهان أمر طوارئ، أعطى بموجبه صلاحيات واسعة للقوات النظامية وبينها جهاز المخابرات، فى الاعتقال والتفتيش والحجز والرقابة للأفراد والممتلكات، في وقت يبدو فيه الشارع أيضاً، ماضياً في احتجاجه، ولسان حاله يقول، إنه ليس لديه ما يخسره.
هذه المعطيات المعقدة للموقف على الأرض في السودان ترسم صورة تكاد تكون لا تبعث على التفاؤل بشأن ما قد تحمله الأيام والأسابيع القادمة، لكن كثيراً من السودانيين يسترجعون معركتهم الممتدة ضد نظام البشير وكيف أنهم صمدوا حتى الآن ويعتبرون ذلك مؤشراً على قدرتهم على مواجهة ما هو قادم أيضاً.
عربي بوست