أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات رياضة أحزاب وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

رذاذ سيجارة

مدار الساعة,مقالات مختارة
مدار الساعة ـ
حجم الخط

كان لدى والدي ميزة, لم يؤمن (بالمكتات).. كان يشعل سيجارته, ويبدأ بمتابعة التلفاز, وحين تحرق جمرة السيجارة.. التبغ والورق, يسقط الرذاذ من تلقاء نفسه.. إما على دشداشته, وإما على (الكنب).. وإما على الطاولة.. المكان الذي ينتشر فيها رذاذ السجائر, أعرف أن والدي جلس فيه..

والدي لم يؤمن يوماً, (بكت) السيجارة... في العامية نقول (كت سيجارتك)... كان يتركها من تلقاء نفسها تسقط, ولتسقط اينما تحب..
في أيامه الأخيرة, ياما طاردت رذاذ سيجارته, ياما قمت بتنظيف (الكنب).. وياما تفقدت (تابلوه) السيارة... وحتى بالقرب من سريره... وتنظيف الرذاذ صعب فهو يعلق في الملابس في السجاد, يعلق في كل شيء...
كنت اسمع صرخات أمي, وهي تضع (المنفظة) أمامه, وتلح عليه بأن يقوم برمي الرذاذ فيها, كان يعدها.. ولكن بعد الشفطة الأولى ينسى كل شيء... وتطوف بقايا السيجارة في المكان, وهي عليها أن تنظف بقايا الدخان.. بعد أن يتركه.
أبي كانت فلسفته في التدخين غريبة, يشفط من السيجارة نفخة واحدة أو أكثر من نفختين بقليل.. ثم يتركها للوقت, يتركها كي تحرق نفسها بنفسها, وكان يحترم السجائر جداً.. ولا يقوم بثنيها أو لوي الفلتر داخل (المكتة) بل يرميها... وهي ستنطفئ من تلقاء نفسها...
قال لي الطبيب حين مرض والدي, إنه كان مدخنا شرها.. وهذا من أسباب المرض... بالعكس والدي لم يكن شرها, والدي هو الرجل الوحيد الذي عرفته في هذه الدنيا.. لم يحتقر سيجارة, وهو الوحيد الذي لم يضرب جسد السيجارة بـ (المكتة) كي يفصل عنها الرذاذ.. وهو الوحيد الذي كان يتركها تنتحر وتنتهي من تلقاء نفسها.. وهو الوحيد الذي كان يحتضنها بين إصبعين.. من حب وحياة... وربما فلسفته في التدخين كانت هي ذات الفلسفة في الحياة, فقد كان يترك الناس في شأنهم.. ويقول لي دائما حين أنقل له حديث البعض: (ترى يا بوي كلامهم مثل رذاذ السيجارة)..
عشت معه وأنا ألملم بقايا الرذاذ.. رذاذ السجائر, وأجمل شيء بالعمر.. هو أن تفعل ذلك, ولا تدري هل تخدم والدك أم تخدم السيجارة, أم توفر من صراخ الوالدة عليه.. أم تحافظ على المكان نظيفاً.
لقد تطورت وكبرت.. صارت لي وظيفة, وصار عندي أسرة.. واشتريت منزلاً وصار عندي سيارة.. وقد مات والدي غير أن الذي تغير في البلد هو: أني لم أعد ألملم رذاذ سيجارة والدي.. وإنما صرت ألملم رذاذ العمر الذي مضى, يشعلوننا مثل السيجارة.. ويطلبون منا أن نلملم رذاذ عمرنا الذي راح...!
وياليتهم مثل أبي, أبي كان يحترم السيجارة.. لم يقم بثنيها أو طويها.. بالمقابل نحن نطوى في اليوم ألف مرة...
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي
مدار الساعة ـ