مدار الساعة - تسيّد العثمانيون البحر المتوسط لقرون، وحكموا ضفته الجنوبية، وقد كانت الجزائر وأسطولها البحري بقيادة خير الدين بربروس درة الأساطيل العثمانية، وباكورة الوطن الأزرق (البحر المتوسط والبحر الأسود).
وبعد مضي مئة عام على تأسيس إيالة الجزائر (الوصاية العثمانية) ارتأى رياس البحر (جنرالات) أن يكون للعاصمة الجزائر رمز ومعلم يستقبل زوارها القادمين من كل بقاع العالم عبر البحر.
ورُفع الطلب لحاكم الجزائر وقتها، حسن باشا، ووافق فوراً على الطلب، وباشر البناؤون بحفر الأساس ورفع القواعد، ليكون مسجد كشتاوة جاهزاً سنة 1612م.
ولأن مسجد كشتاوة الحديث كان مقابلاً لساحة كبيرة يحتلها تجار الماعز، أطلق عليه العثمانيون اسم جامع "كتشاوة"، وتتكون الكلمة التركية من جزئين، "كت" وتعني ساحة، و"شاوة" وتعني الماعز، أي جامع ساحة الماعز.
وبعد قرن ونصف قرَّر الداي حسن الثالث، وهو آخر الحكام العثمانيين في الجزائر توسعة مسجد كشتاوة، ليصبح أكبر جوامع البلاد وأهمها على الإطلاق.
ثم جاء الفرنسيون
بعد ثلاث سنوات من الحصار البحري والتفاوض على تسليم مدينة الجزائر هاجم الفرنسيون العاصمة، ونجحوا في احتلالها والسيطرة عليها.
ومن بين أولى القرارات التي اتَّخذها الحاكم العسكري الفرنسي، الدوق دو روفيغو، تحويل درة المدينة ومعلمها الكبير مسجد كشتاوة إلى كاتدرائية للتبشير بالمسيحية في الجزائر وإفريقيا.
عارض أعيان المدينة وشيوخها القرار، وخطّوا الرسائل، وسيَّروا الوفود للحاكم العسكري، لكن محاولاتهم باءت بالفشل أمام إصرار روفيغو، الذي بدا وكأنه جاء من أجل هذه المهمة حصراً.
وفي صباح من صباحات الجزائر المحتلة، استيقظ الجزائريون على آلاف المصاحف والكتب والمخطوطات تُحرق، ويقول بعض المؤرخين إن ما فعله الفرنسيون يومها لا يختلف كثيراً عمّا فعله هولاكو بمكتبات بغداد يوم احتلها.
اعتصام.. وآلاف الشهداء
صُدم الجزائريون من الهمجية الفرنسية في التعامل مع مقدساتهم، وتأكدوا أن حاكم الجزائر الجديد مُصرّ على تحويل مسجد كشتاوة إلى كاتدرائية، فأرسلوا منادياً لأغلب أحياء العاصمة وأزقّتها، للنفير العام والدفاع على جامع المدينة ورموزها.
وما هي إلى ساعات قليلة حتى اعتصم داخل مسجد كشتاوة 4 آلاف مصلٍّ. أشار مساعدو الدوق دو روفيغو عليه بالتهدئة؛ خوفاً من ثورة عارمة في المدينة والمدن المجاورة، لا سيما أن أقدامهم لم تثبُت بعدُ في بوابة إفريقيا، كما وصفها الفرنسيون وهم يحضّرون الحملة ضدها.
رفض الحاكم الفرنسي المشورة، واستدعى المدفعية، وبدأ بدكّ الجامع على رؤوس المعتصمين دون سابق إنذار.
وما إن صمتت المدفعية وتلاشت أعمدة الدخان حتى أطلَّ الجزائريون على جبال من الجثث، إذ لم ينجُ أحدٌ من المعتصمين.
وتُطلِق الجزائر على الساحة المجاورة للمسجد إلى اليوم اسم ساحة الشهداء، تكريماً لأرواح 4 آلاف شهيدٍ ماتوا لأجل ألا يُهدم جامع المدينة وشرفها.
كان لحاكم الجزائر دي روفيغو ما أراد، وحوّل الجامع إلى كاتدرائية بعد عامين من احتلال الجزائر، أي سنة 1832، وبقيت على ذلك الحال 132 سنة، أي حتى عام 1962، تاريخ استقلال الجزائر عن فرنسا، لتعود إلى سيرتها الأولى جامعاً ورمزاً للجزائر العاصمة.
جامع كتشاوة والجمعة الأولى
بعد 130 سنة، وفي نفس المكان الذي وقف فيه الدوق دي روفيغو، ليتخذ قرار تحويل المسجد إلى كاتدرائية، وقف العلامة وأحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين، البشير الإبراهيمي، ليخطب في الجزائريين الذين حجوا للجامع بالآلاف، لحضور أول صلاة جمعة فيه بعد استقلال الجزائر.
وخطب الإبراهيمي قائلاً: "هذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموه بالأمس مقهورين غير معذورين، واسترجعتموه اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم رُدت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلاباً، وأخذتموها منه غلاباً، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد التوحيد إليه، فالتقيتم جميعاً على قَدر".
وختم "سبحانه تعالى جده، تجلّى على بعض عباده بالغضب والسخط، فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلَّى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين، ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون، وآياته في الآفاق، يتّبعها قوم فيفلحون، ويُعرض عنها قوم فيخسرون".
ترميم تركي
بعد الزلزال الذي ضرب العاصمة الجزائر سنة 2003 تضرّر المسجد العتيق، واضطرت السلطات الجزائرية لإغلاقه أمام المصلين سنة 2006.
وظلَّ المسجد على هذه الحالة لعقدٍ كاملٍ، حتى تقدمت الرئاسة التركية بطلب لنظيرتها الجزائرية من أجل إعادة ترميمه وتجهيزه بالكامل، ولاقت الموافقة.
ورُمم المسجد من طرف مؤسسة "تيكا"، التي تهتم بالآثار العثمانية، وهي تابعة للرئاسة التركية.
وفي زيارة دولة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قام بتدشينه وإعادته إلى الحياة، ويستقبل جامع "كتشاوة" اليوم آلاف المصلين والزائرين، إذ يعتبر أحد أشهر معالم الجزائر العاصمة.