مدار الساعة - عابدة المؤيد العظم
كان جدي علي الطنطاوي– رحمه الله- قاضياً، بل قاضي دمشق الممتاز، وكان بعدها مفتياً شرعياً معروفاً بالوسطية والإنصاف، ومارس في أوقات كثيرةٍ دور الحَكَم فساهم بحل المشكلات، وأجاب عن رسائل المستمعين والمشاهدين، وكانت تأتيه رسائل من فتيات، وأيضاً من رجال وأزواج وآباء، يعترفون فيها بما فعلوه مع نسائهم ويسألونه "تصويب سلوكهم" و"النصيحة"؛ أي كان على اطلاع على الطرفين، ويسمع من الرجال والنساء، ويعرف كثيراً من خبايا البيوت (لكيلا تظنوا أن المرأة تتظلم له -ولم يسمع من زوجها- فيصدقها هي!)، فكان جدي يسمع من الطرفين، ثم يقر دائماً ويعترف بأنها مظلومةٌ أضعاف الرجل (مع أن المرأة على قولهم ضعيفة الحجة!).
وهذه هي الفكرة الأولى التي أريد إيصالها كمُقدمة للموضوع "المرأة مظلومة أكثر من الرجل، ولا شك في هذا"، بدليل:
1- الواقع الذي نعيشه ونراه، ومن القضايا التي في المحاكم.
2- على أن الدليل الأكبر والأوثق والأعمق والأقوى هو توصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- بها مراراً وتكراراً، وهذا له دلالة قوية، خاصةً أنه كررها في حجة الوداع وختم بها، والوصايا النهائية والخاتمة لها الأثر الأكبر بالموصى به… والله- سبحانه- كان يُتبع الآيات الخاصة بالطلاق والخلافات بأن الله كان علياً كبيراً (وأمثالها من التحذيرات المخيفة).
3- والدليل الثالث هو ما تشهده المستشفيات من حوادث وإيذاء جسدي للنساء، وأيضاً ما يقره الطب النفسي من حالات مأساوية.
4- ويؤكد كل ذلك الإحصاءات الرسمية الموثقة والمشهورة، وأضرب مثلاً واحداً: ففي استبيان عن العنف الأسري ضد المرأة، على 500 عينة عشوائية في المجتمع السوري، ولنساء من مختلف مناطق سوريا ومختلف الشرائح المجتمعية المتباينة اقتصادياً وثقافياً وعرقياً ودينياً، كانت نتائجه كما يلي، بالنسبة للفتيات:
80% من الفتيات تعرَّضن لعنف معنوي من قِبل أسرهن في الطفولة.
80 % من الفتيات تعرَّضن لعنف جسدي من قِبل أسرهن في الطفولة.
14 % من النساء تعرَّضن للتحرش من قِبل المحارم في الطفولة.
منع الأهل 27% من الفتيات من متابعة التعليم.
59 % من النساء تعرَّضن للإهمال من قِبل الأسرة
77 % كان أهلهن يمنعوهن من الخروج من المنزل.
71 % من النساء منعهن الأهل من الخروج للتسلية والقيام بنشاطات اجتماعية مشروعة ومفيدة.
38 % حُرمن من الإرث.
وأما بالنسبة للزوجات:
• 45 % يُضربن من قِبل أزواجهن.
• 63 % يتعرضن لعنف معنوي من قِبل أزواجهن.
• 62 % شكون من إهمال أزواجهن
• 50 % يمنعهن أزواجهن من الخروج من المنزل، مهما كان السبب.
وهكذا: المرأة تُقتل على الخالص بالشُّبهة، وقد تُقلع عيناها، وتُضرب، وتُطرد من بيت الزوجية وتُترك مُعلَّقة، وتُطلَّق بتعسف وبلا سبب، أو تلجأ إلى الخلع وهي متضررة، وتُلزَم بالتنازل عن مهرها، وتُضرب، وتُسحب منها الحضانة وتُحرم من أولادها، وتُعضل، وتُمنع من الدراسة أو العمل… ثم يقولون لك "تتظلم" وتحب لعب دور الضحية!
الفكرة الثانية
لا شك في أن الظلم بلاء واختبار يقع على الجميع، ومن ثم الرجل يُظلم، على أن ظلم الرجل يكون غالباً خارج البيت، مما يجعله آمناً مطمئناً -على الأقل في بيته- فيتقوى على الظلم الخارجي.
في حين تُظلم المرأة خارج البيت (مثل الرجل إذا توظفت)، وتُظلم أيضاً داخل البيت، حين يُتحرش بها، أو تُستضعف وتُستغفل في مالها… والبيت مكان أمانها وراحتها (وهذا من الفروق الجوهرية بين ظلمه وظلمها).
ومن خلال اطلاعي على وسائل التواصل، وعلى برنامج كلوب هاوس، وجدت كثيراً من المشهورين باتوا يروجون فكرة "ظلم الرجل، ووجوب الانتصار له، وضرورة إيقاف الأمر عند حده قبل أن يتفاقم". ورأيت وسمعت من الرجال ومن النساء من تقتنع وتمشي معهم بهذه القضية وتنتصر للرجال. فلماذا يفعلون؟
إنهم ينتصرون للرجل المظلوم، لأن الشرع أباح التظلم للمظلوم، والقرآن يقول: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم"، فالتظلم بالحق إذاً مشروع.
وهنا تأتي الفكرة الثالثة:
"لماذا التظلم من قِبل المرأة مرفوض، ويتم إنكاره، وحلالٌ ترويج مظلمة الرجل"، خاصةً أن التظلم من قِبل المرأة متوقع ومألوف، وإن الصحابية الكريمة خولة بنت ثعلبة تظلمت، وغيرها تظلمن، في حين نجد التظلم من جهة الرجل قليل ونادر، ومَعيب لأنه القوي والمؤتمن على الأسرة (وقد يضعف ويمر بمراحل صعبة، ولكنه يبقى مالكاً لقدرات وحلول متعددة تنجيه من الظلم لو أراد استعمالها).
وأما الفكرة الرابعة فهي أن استغلال بعض النساء للمظلومية بطريقة سيئة، ومحاولة الانتفاع منها، لا يعنيان بالضرورة أنها ليست مظلومة حقاً، ولا يعنيان -أبداً- أن كل النساء المظلومات كاذبات ومُدَّعيات ولديهن أهداف ومآرب، ولا يعنيان أن نكف عن نصرتهن ونهمل الشكاوى الحقيقية والواقعية التي نراها، وكم هو مؤلمٌ سوء الظن هذا.
استغلال المظلومية أمر بشع، ولكن التظلم أمر مطلوب، والله لا يحب المؤمن الضعيف، ولا يرضى أن نساعد الفراعنة على التجبر، ولذلك شرع الله العقوبات والأرش والتعزير، بل تعهد الله لمن يشفع للناس بالأجر "مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا"، وهذا واجبنا ودورنا، وهل فُتحت المحاكم إلا للتظلم؟ وهل وُضعت القوانين إلا للفصل بين الناس؟ ألا يدرس الشباب المحاماة للدفاع والقضاء بين الناس؟ أوليس الإنكار بالكلمة انتصار للمساكين والضعفاء، ومحاولة للتأثير والتغيير؟
لقد بات الطلاق في ازدياد، والأسر في تفكك، والصغار يضيعون، وهذا يحدث ليس بسبب الغرب والدعوات الخارجية، وإنما المشكلة الأساسية من عند أنفسنا، ومن سلوكنا، ومن طريقة تعاملنا مع القضايا الأسرية، حيث نلجأ إلى الإنكار، واتهام طرفٍ، وكَبْتِه، وهذا لا يُجدي، مَثَله كمن جُرحت يده جرحاً بالغاً ودخلتها الجراثيم، فغطيناها وضمدناها وقلنا للمريض الذي يتألم: "بلا دلع، كام يوم وتشفى"، وإذا به يلتهب بعد فترة، وقد تصيبه الغرغرينا، ويضطر الأطباء إلى قطعها، وهذا ما يحدث اليوم، الأسر تتفكك، ونحن نَتَهِم النسوية والغرب والأجندات والكتب والمتأسلمين، وننسى ما نفعله.
الخلاصة
إن الإنكار لا يجدي، واسألوا أطباء علم النفس سيقولون لكم، أول طريق للحل، هو "الاعتراف بالمشكلة"، ثم الرغبة في حلها، ثم اتخاذ الخطوات اللازمة، والمصيبة والمشكلة في قضايا المرأة هي إنكار المظلومية، وادعاء أن المرأة تعيش بسلام وأمان، وهي مفترية ومتطلّبة، وهذا خطأ، وظلم فوق ظلمها.
عربي بوست