مدار الساعة - عرفت الجزائر سنوات من الركود والغياب التام إقليمياً ودولياً بسبب مرض الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وبقائه في الحكم 6 سنوات أوكَل فيها مهامه لمحيطه الذي انشغل بالأمور الداخلية مخافة ثورة الشعب على الوضع.
وفعلاً انتظر الجزائريون سنة 2019 ليرحل بوتفليقة المريض بإرادته بمناسبة الانتخابات الرئاسية، لكن محيطه فضَّل ترشحه لعهدة جديدة، ليثور الشعب على هذا القرار وينتج عن ذلك تغيير للنظام.
التغيير في الجزائر مسَّ العديد من المجالات، ومن بين أهم ما مسه سياسة البلاد الخارجية، التي عادت بقوة إلى الساحة الإقليمية والدولية.
ومنذ اعتلاء الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كرسي الحكم، بدأت الجزائر تتحرك في كل اتجاه لإعادة بعث دورها في ليبيا كضرورة قصوى، بحيث كان أول شخصية عربية يستقبلها تبون بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، ثم شارك بعدها في مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية.
وأعاد تبون بعث القضية الفلسطينية دولياً وإقليمياً بعد موجة التطبيع التي عرفتها المنطقة العربية، بحيث شدد على رفض التطبيع بكل أشكاله ويسعى لعقد قمة عربية تعيد إحياء القضية.
الجزائر ثورة دبلوماسية
أعاد تبون هيكلة الدبلوماسية الجزائرية، إذ استحدث إدارات وفروعاً جديدة بوزارة الخارجية تهتم كل واحدة منها بمنطقة ذات اهتمام خاص بالجزائر.
كما استحدث تبون 5 مبعوثين خاصين يعملون تحت سلطة وزير الخارجية، وهم مبعوث خاص بمالي وآخر بالصحراء والمغرب العربي، وآخر بالشؤون الإفريقية ومبعوث آخر لملف الأمن الدولي، كما عين مبعوثاً خاصاً بالجالية في الخارج، ومبعوثاً آخر يعنى بالدبلوماسية الاقتصادية، ومبعوثاً للدول العربية، وآخر للأمم المتحدة وقضايا الأمن والسلم.
وأعاد تبون تفعيل المديرية العامة لليقظة الاستراتيجية والتنبؤ وتسيير الأزمات، بصفتها أداة هامة في الدبلوماسية المعاصرة.
وتعمل هذه المديرية في سياق التحديات المختلفة والمتنوعة (كوفيد-19 والحرائق المميتة، والنزاع في الصحراء، والتوترات الإقليمية حول مالي وليبيا وغيرها) (تعمل) على استباق الأفعال العدائية والحملات الشرسة الدعائية الموجهة ضد الجزائر حسب الخارجية الجزائرية.
وفي السياق ذاته نظَّمت الجزائر اجتماعاً غير مسبوق في تاريخها، إذ جمع تبون بجميع السفراء والقناصلة الجزائريين في العالم لإسداء أوامر وقرارات جديدة ورسم خارطة دبلوماسية عصرية، على حد تعبير رئاسة الجمهورية.
كما أجرى تبون أكبر حركة إقالة وتعيين في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، حيث أبعد 70 سفيراً وقنصلاً وعيّن آخرين جلهم من الدبلوماسيين الشباب.
ويرى الخبير في العلاقات الدولية والمحلل السياسي فيصل بن أحمد أن إعادة هيكلة الدبلوماسية الجزائرية كان حامياً بالنظر إلى الترهل والخمول الذي أصاب هذا السلك طيلة سنوات حكم بوتفليقة الأخيرة.
ليبيا ومالي.. الأولوية
لم يضيّع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الوقت كثيراً ليجعل من الجزائر فاعلاً أساسياً في الأزمة الليبية.
حيث استقبل رئيس الحكومة الليبية المعترف بها دولياً فايز السراج بعد أيام من تنصيبه، كما أرسل وزير خارجيته وقتها صبري بوقادوم للقاء خليفة حفتر، واستقبل تبون عقيلة صالح والعديد من الشخصيات الليبية المؤثرة في المشهد السياسي هناك.
واجتمع تبون مع الرئيس التركي أردوغان مرتين حول ليبيا، حيث أكدا على دعم الشرعية الدولية.
وذهب تبون إلى حد التأكيد أن بلاده كانت ستتدخل لمنع سقوط طرابلس في أيدي المرتزقة، في إشارة إلى خليفة حفتر.
ولعبت الجزائر دوراً مهماً في توقيف إطلاق النار والذهاب نحو التوافق لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية.
وتصر الجزائر اليوم على ضرورة إجراء الانتخابات الليبية في موعدها المحدد يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.
وفي المقابل تعتبر الجزائر الأزمة في مالي التي عرفت انقلابين عسكريين في مدة قصيرة، أزمة كبيرة لها بسبب الحدود المشتركة.
واستقبلت الجزائر مسؤولين ماليين وأوفدت وزير خارجيتها الجديد رمطان لعمامرة إلى باماكو عدة مرات لحل الخلافات بين أطراف الأزمة.
وتشكِّل الجزائر حلقاً مع حكام مالي الجدد وروسيا لمحاصرة الدور الفرنسي الذي يعمل لصالح باريس دون النظر إلى مصالح الماليين والجزائريين ومنطقة الساحل الإفريقي ككل.
فلسطين.. القضية الأولى
كانت الجزائر واضحة فيما يخص القضية الفلسطينية، بعد موجة التطبيع العربي مع إسرائيل، بحيث انتقد تبون دول التطبيع ووصفها بالمهرولة.
وتعرَّضت العلاقات بين الجزائر ودولة الإمارات إلى هزة بسبب هذا التصريح، لا سيما أن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد كان هو عراب اتفاقيات التطبيع.
وتصف الجزائر القضية الفلسطينية بأم القضايا، ولا يمكن تحقيق أي استقرار في المنطقة دون حلها، ويسعى تبون لإحياء اتفاق الأرض مقابل السلام الذي تقدمت به السعودية تحت مسمى المبادرة العربية في قمة بيروت العربية سنة 2002.
واستقبل تبون مؤخراً الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تحضيراً للقمة العربية شهر مارس/آذار القادم بالجزائر، لإعادة بعث القضية من جديد عربياً ودولياً، كما أنها قدمت هبة بـ100 مليون دولار للسلطة الفلسطينية كدعم مع تأكيدها على مواصلة تسديد مخصصاتها السنوية للسلطة.
ومن المتوقع أن تجمع الجزائر قريباً، الفصائل الفلسطينية على أرضها من أجل توحيد كلمتها وقوتها لمواجهة إسرائيل، كما أبدت الفصائل الفلسطينية موافقتها على الاجتماع في الجزائر من أجل الوحدة.
ووفق فيصل بن أحمد، الخبير في العلاقات الدولية والمحلل السياسي الذي تحدث لـ"عربي بوست" فإن الجزائر لمراهنتها على القضية الفلسطينية فهي تراهن الرهان الصحيح.
وأضاف المتحدث أن السياسة الخارجية الجزائرية قائمة على دعم الشعوب المستضعفة على تقرير مصيرها ومساعدة الفلسطينيين يصب في هذا الاتجاه.
فرنسا والمغرب.. ثنائي التوتر
بعد هدوء طبع العلاقات الجزائرية المغربية لسنوات، انفجر مرة واحدة بعد اعتلاء تبون السلطة، إذ وصلت التوترات بين البلدين إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية وإنهاء اتفاقيات الغاز والتسابق نحو التسلح.
ويتبادل البلدان تهماً تتعلق بالمساس بالوحدة الترابية، حيث تتهم الرباط الجزائر بمحاولة بتر صحرائها عنها بدعم جبهة البوليساريو التي تسعى للاستقلال بإقليم الصحراء، بينما تتهم الجزائر المغرب بدعم حركة "الماك" التي تسعى هي الأخرى للانفصال بمنطقة القبائل عن الجزائر.
ولا تستبعد عدة تقارير استخباراتية إمكانية حصول نزاع مسلح بين البلدين بسبب التوتر المتصاعد وغير المتحكم فيه.
أما العلاقات الجزائرية الفرنسية فعرفت تحولاً دراماتيكياً بسبب تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تاريخ الجزائر.
وسحبت الجزائر سفيرها من باريس واتخذت عدة إجراءات ضد الشركات الفرنسية في الجزائر؛ حيث سحبت تسيير مترو الجزائر من شركة فرنسية، وكذلك فعلت مع شركة فرنسية أخرى تسيّر شبكة توزيع المياه.
ووفق مصادر لـ"عربي بوست" فإن الجزائر ترفض عودة العلاقات إلى سابق عهدها، رغم محاولة فرنسا ذلك عن طريق إيفاد وزير خارجيتها جون إيف لودريان مؤخراً للقاء تبون.
وتؤجل الجزائر النقاش في موضوع العلاقات بين البلدين إلى ما بعد الرئاسيات الفرنسية القادمة شهر أبريل/نيسان 2021.